العشوائية التي طالت قطاع المياه، والإهدار الكبير والاستنزاف الخطير للموارد المائية خلال الفترة الماضية وحتى الآن يعكس غياب الرؤية الموضوعية في إدارة هذا القطاع، وإخضاع طريقة إدارته للاجتهادات، والمزايدات، والتجاذبات في الصلاحيات والاختصاصات. ولا نستطيع أن ننكر أن هناك بعض الأفكار التي طرحت خلال السنوات الماضية بشأن الإدارة المائية، والتي ظل معظمها أفكاراً على الورق، بينما ساد الواقع الاستمرار والتوسع في عملية نهب الثروة المائية الجوفية دون رادع والتصرف بها كحق فردي دون ضوابط، وأهملت طرق حصاد المياه السطحية التي اشتهر بها اليمنيون الأوائل.
وسعت هيئة الموارد المائية منذ إنشائها في عام 95م إلى بلورة عدد من مفاهيم الإدارة المائية السليمة في وثائقها المختلفة، ولكنها لم تتمكن من تطويق عبث الاستنزاف العشوائي للمياه الجوفية واقعيا، فعندما قامت برصد وحصر آبار المياه في منتصف عام 1995م نبهتنا إلى أن المياه الجوفية تسحب من آلاف الآبار، وأن هناك أكثر من 200 حفار تواصل الحفر نحو الأعماق، وأن خمسة آلاف بئر جعلت حوض صنعاء في دائرة الخطر، كما وضعت العديد من التصورات للإدارة المائية سواءً من خلال السياسات والقرارات، أو من خلال التنسيق مع بعض الجهات، وكان من أبرز ما وضعته في هذا الاتجاه إعداد مخطط للأحواض المائية على مستوى الجمهورية. وطيلة تلك الفترة وحتى إنشاء وزارة المياه والبيئة كانت كل جهود الهيئة مكتبية ولم تتمكن في الواقع من وقف الاستنزاف الجائر للمياه الجوفية... لنستيقظ على كارثة فظيعة كشفها أحدث حصر ميداني قامت به وزارة المياه والبيئة في الربع الأول من عام 2005م ليخبرنا أن مياه المستقبل والأجيال القادمة أصبحت رهينة أكثر من مئة ألف بئر وأن حوض صنعاء وحده يلتهمه 13 ألف بئر.
ولعلّ هذا الوضع يظل هو التحدي الأبرز للجهات المعنية بقطاع المياه بل ولكل مكونات المجتمع وخاصة الزراعية.
ولأول مرة في تاريخ الرقابة المائية في اليمن سعت وزارة المياه والبيئة إلى استصدار قرارات وقوانين وتفعيلها بإجراءات عملية ميدانية رقابية وخاصة القرارين رقم 141، و227 اللذين ضيقا الخناق على عملية الحفر العشوائي وعلى انفلات حركة سير الحفارات، وترجمت تلك الإجراءات بممارسات رقابية شديدة باستخدام آليات ضبط مادية ومالية.
وظلت الوزارة متمسكة ومقتنعة في نهجها المتمثل في معالجة الأزمة المائية من خلال السعي لترسيخ قواعد فعالة للإدارة المائية، وأن أفضل الخطوات العملية للوصول إلى ذلك تبدأ بتفعيل التشريعات والسياسات المتعلقة بالإدارة المائية، عن طريق إشراك مختلف القطاعات والمستخدمين في تحمل المسؤولية والمشاركة في هذه الإدارة، وظهر الاهتمام في هذا الجانب من خلال المتابعة الميدانية لتنفيذ القرارات التي تنظم عملية حفر الآبار وتحرك الحفارات.
والملموس منذ فترة قريبة ترسخت القناعة لدى الجهات المعنية بإدارة القطاع المائي أن الخطوة الأولى في مواجهة شحة المياه تبدأ من تجذير قواعد إدارة هذا القطاع برؤية علمية وعملية مخطط لها بدقة متناهية، ولذلك احتلت إدارة الموارد المائية الأولوية في أهداف وسياسات الإستراتيجية الوطنية والبرنامج الاستثماري للمياه (2009-2015)والتي رسمت خمسة أهداف لإدارة الموارد المائية وهي:
* تحسين تخصيص المياه مع مراعاة العدالة والأعراف الاجتماعية وتلبية الاحتياجات المنزلية.
* تحقيق أكبر مردود اقتصادي ممكن.
* وخلق رؤية واقعية وشاملة لدى المجتمع حول المياه، والإسهام في التخفيف من الفقر عن طريق تشجيع الاستخدام الكفؤ للمياه والعدالة في تخصيصها.
ولتحقيق هذه الأهداف تبنت الاستراتيجية عددا من السياسات، منبهة إلى أن استنزاف طبقات المياه الجوفية وتلوثها بما يفوق إمكانية الإصلاح سوف ينمي الشعور لدى أعداد متزايدة من السكان بعدم العدل في الحصول على المياه مما قد يؤدي إلى توترات اجتماعية. وهو الأمر الذي يوجب على الدولة تهيئة التدخلات المؤسساتية المناسبة خصوصا من خلال بناء شراكة مع المجتمعات المحلية في إدارة موارده المائية.
أما النهج أو الأساليب المقترحة لتنفيذ سياسات إدارة الموارد المائية فتضمنت تعزيز الشراكة مع المجتمعات المحلية في إدارة مواردها المائية، بحيث تقع على عاتق الدولة مسئوليات خلق إطار مؤسسي مواتٍ، وتوفير المعلومات ورفع الوعي وخلق رؤية لإدارة المياه، وتأمين المنشآت العامة ذات الصلة بالمياه وحماية حقوق المياه، وتنفيذ قانون المياه، وخلق بيئة اقتصاد كلي مواتية. كما تبنت تنفيذ خطط للإدارة المتكاملة للأحواض المائية تقوم على نهج تشاركي مع المجتمعات المحلية لمساعدتها على حل مشاكلها الخاصة بإدارة المياه.
ورغم كل تلك الجهود فإن المشكلة المائية في اليمن ليست في كم المياه بل في طريقة إدارة توزيع واستهلاك هذا المورد، والقلق ليس من شحة المياه بل من سوء الإدارة التي جعلتنا نواجه مشكلة التهديد بالجفاف المائي في العديد من المناطق، وهنا يبرز التحدي بإيجاد آلية فعالة لإدارة المصادر المائية في ظل الواقع الاقتصادي الراهن للسكان الذين تعيش أكثر من نصف قواهم العاملة على الزراعة.
وإذا فشلت أساليب السيطرة على استهلاك الماء ولم نتمكن من ضمان توزيع عادل سواءً أكان ذلك اجتماعياً أم بيئياً أو كان بالنسبة للأجيال القادمة، فإنه يتعين النظر في إجراءات تصحيحية إضافية أخرى.
ففي المناطق التي أخذ فيها مخزون المياه الجوفية في النضوب يتعين التدخل الحكومي بأن تحدد الكميات المسحوبة بما يتناسب مع معدلات التعويض.
إن حسن إدارة المياه يعتمد على تقريب وجهات النظر بين القائمين على إدارة هذه الأنظمة وبين المستخدمين، فتطور أسلوب الإدارة المائية وطرق الري ستلازمه زيادة في المنتج وحماية للأراضي الزراعية من التملح الناتج عن ريها بمياه ارتفعت ملوحتها نتيجة الضخ الجائر، كما هو حادث في عدد من المناطق الزراعية الساحلية.
لذلك فإن الإدارة المائية الجيدة ستساهم في الحفاظ على مهام المياه المتعددة والتي في العادة يتجاهلها المستهلك، من ذلك دور المياه في الحفاظ على البيئة وحمايتها، إضافة إلى دورها في المرافق الترفيهية وفوائدها الجمالية الجمة. وجميع هذه الضروريات ُتلزمنا أن نسعى إلى كبح جماح الاستهلاك، سواء كان ذلك في المدن أو في الأغراض الصناعية أو المجال الزراعي، فرغم الجهود التي ستبذل لترشيد المياه ورغم زيادة الاستثمارات فإننا لن نصل إلى حل للمشكلة طالما استمر سوء الاستخدام، وزيادة النمو السكاني، لذلك فالأمر يتطلب إدارة فعالة للثروة المائية خاصة ونحن أمام موارد مائية محدودة.