فوفقاً لتحليل حديث نشرته صحيفة "فايننشال تايمز"، تسجّل ديون الحكومات حول العالم مستويات غير مسبوقة، مع وتيرة نمو تفوق نمو الناتج المحلي الإجمالي، مما ينذر بمرحلة طويلة من الضغوط المالية، وربما بأزمات سيادية إذا تغيّرت ظروف التمويل أو فقدت الأسواق ثقتها بقدرة الدول على السداد.
تسارع الديون أسرع من الاقتصاد
في الوضع الطبيعي، يمكن للدول أن تتحمّل مستويات مرتفعة من الدين، طالما كان الاقتصاد ينمو بوتيرة كافية تسمح بخدمة هذا الدين، من دون اللجوء إلى إجراءات تقشفية قاسية أو إعادة هيكلة، إلا أن المشكلة الحالية تكمن في أن الدين ينمو أسرع من الاقتصاد، وهي معادلة غير مستدامة على المدى المتوسط والطويل.
إلى ذلك، تشير البيانات التي استندت عليها الصحيفة إلى أن الدين الحكومي الأميركي اقترب من 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، بينما تجاوز الدين الوطن (يشمل ديون الولايات والسلطات المحلية) 110 في المئة من الناتج، مع توقعات بوصوله إلى نحو 156 في المئة بحلول عام 2055، إذا استمرت مستويات الإنفاق الحالية من دون إصلاحات هيكلية.
هذه الأرقام تضع الولايات المتحدة، أكبر اقتصاد في العالم، في موقع لم تعهده منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لكن في سياق اقتصادي ومالي مختلف جذرياً.
الولايات المتحدة: امتياز الدولار لم يعد درعاً مطلقاً
لطالما تمتعت الولايات المتحدة بامتياز فريد يتمثل في إصدار العملة الاحتياطية الأولى عالمياً، مما مكّنها من تمويل عجزها بكلف منخفضة نسبياً عبر إصدار سندات الخزانة، غير أن هذا الامتياز، على رغم بقائه قائماً، لم يعد ضمانة مطلقة.
فارتفاع أسعار الفائدة خلال العامين الماضيين أعاد تسعير الدين الأميركي، ورفع كلفة خدمته بصورة لافتة، ومع تضخم فاتورة الفوائد، بات جزء متزايد من الإنفاق الفيدرالي موجهاً لسداد فوائد الديون بدلاً من الاستثمار في البنية التحتية أو التعليم أو البحث العلمي، ومع استمرار الانقسام السياسي الحاد في واشنطن، تبدو فرص التوصل إلى إصلاح مالي شامل، يشمل الضرائب والإنفاق، محدودة في الأجل المنظور.
أوروبا: أزمة مؤجلة وليست محلولة
الوضع في أوروبا لا يبدو أفضل بكثير، وإن اختلفت التفاصيل، فكثير من الدول الأوروبية خرجت من جائحة كوفيد-19 بمستويات دين مرتفعة، زادتها صدمة الطاقة والحرب في أوكرانيا تعقيداً، وتشير التقديرات إلى أن الديون الأوروبية قد تتضاعف خلال 15 عاماً إذا لم يُكبح جماح الإنفاق العام، لا سيما الإنفاق الاجتماعي والدفاعي.
المشكلة الأوروبية تبدو مضاعفة، فمن جهة، تفرض قواعد الاتحاد الأوروبي قيوداً على العجز والدين، لكنها غالباً ما تُخفف أو تُعلّق عند كل أزمة، ومن جهة أخرى، فإن الشيخوخة السكانية تعني ارتفاعاً مستمراً في كلفة التقاعد والرعاية الصحية، مما يضغط على الموازنات العامة في وقت يعاني فيه النمو الاقتصادي الضعف.
يشير تقرير "فايننشال تايمز" إلى تجربة تاريخية مهمّة، في بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ففي ذلك الوقت، بلغ الدين العام البريطاني نحو 250 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، لكنه انخفض إلى 42 في المئة خلال ثلاثة عقود.
والعامل الحاسم آنذاك لم يكن التقشف القاسي، بل التضخم والنمو الاسمي، إذ أسهم ارتفاع الأسعار والنمو الاقتصادي في تآكل القيمة الحقيقية للدين.
غير أن الظروف الحالية مختلفة جذرياً، فالبنوك المركزية اليوم، وعلى رأسها مجلس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) والبنك المركزي الأوروبي، تضع محاربة التضخم في صدارة أولوياتها، مما يقلّص إمكانية "تسييل الديون" عبر التضخم كما حدث في الماضي، بل إن أي عودة قوية للتضخم تُقابل فوراً بتشديد نقدي يرفع أسعار الفائدة ويزيد كلفة خدمة الدين.
السياسة والديموغرافيا: قنبلة موقوتة
أيضاً، تتفاقم أزمة الدين بفعل عوامل سياسية وديموغرافية يصعب تجاهلها، فشيخوخة السكان في الاقتصادات المتقدمة تعني قاعدة أوسع من المتقاعدين مقابل قوة عمل أضيق، مما يقلّل الإيرادات الضريبية ويرفع النفقات الاجتماعية.
وفي الوقت ذاته، تدفع التوترات الجيوسياسية المتصاعدة (من الحرب في أوكرانيا إلى سباق التسلح العالمي) الحكومات إلى زيادة موازنات الدفاع، وهي نفقات يصعب سياسياً خفضها.
إلى جانب ذلك، تفرض التحولات المناخية والالتزامات البيئية استثمارات ضخمة في الطاقة النظيفة والبنية التحتية الخضراء، مما يضيف أعباء جديدة على المالية العامة، حتى لو كانت ضرورية على المدى الطويل.
إنتاجية ضعيفة… ومخرج ضيّق
أما أخطر ما يواجه الاقتصادات المثقلة بالديون فهو ضعف الإنتاجية، إذ تشير توقعات "دويتشه بنك" إلى نمو في الإنتاجية لا يتجاوز 0.7 في المئة، وهو معدل غير كافٍ لتعويض الزيادة السريعة في الدين، ومن دون تحسّن ملموس في الإنتاجية، يصبح النمو الاقتصادي هشاً، وتتحول الديون إلى عبء خانق بدلاً من أداة تمويل للتنمية.
إلى ذلك، ضعف الإنتاجية يعني أن الاقتصادات ستجد صعوبة في توسيع قاعدتها الضريبية من دون رفع الضرائب أو خفض الإنفاق، وكلا الخيارين يحملان كلفة سياسية واجتماعية مرتفعة.
السؤال الجوهري ليس ما إذا كانت الديون مرتفعة، بل متى وكيف ستتحول إلى أزمة؟ فالتاريخ الاقتصادي يُظهر أن الأزمات لا تنفجر بسبب الأرقام وحدها، بل نتيجة فقدان الثقة.
فطالما تثق الأسواق في قدرة الحكومات على السداد، يستمر التمويل، لكن أي صدمة (سياسية، أو مالية أو جيوسياسية) قد تدفع المستثمرين إلى المطالبة بعوائد أعلى، مما يطلق حلقة مفرغة من ارتفاع الفوائد وتفاقم العجز.
ولا يعني ذلك بالضرورة انهياراً وشيكاً، لكنه يشير إلى مرحلة طويلة من الهشاشة المالية، إذ تصبح الحكومات أقل قدرة على مواجهة الصدمات، وأكثر عرضة لابتزاز الأسواق.
سيناريوهات الخروج: خيارات مؤلمة
في كل الأحوال، أمام الحكومات ثلاثة مسارات رئيسة، جميعها مكلف، أولهم الإصلاح المالي التدرجي: عبر مزيج من ضبط الإنفاق وزيادة الإيرادات، وهو المسار الأكثر استدامة لكنه الأصعب سياسياً.
بينما المسار الثاني، النمو عبر الاستثمار والإنتاجية: وهو الخيار الأمثل نظرياً، لكنه يتطلب وقتاً وإصلاحات عميقة في التعليم والتكنولوجيا وسوق العمل.
وأخيراً مسار التضخم أو إعادة الهيكلة: غالباً هو خيار غير معلن، لكنه يظهر عندما تفشل الخيارات الأخرى، ويحمل كلفة عالية على المدخرين والاستقرار الاجتماعي.
خلاصة القول، الدين العام العالمي لم يعد مجرد ملف اقتصادي، بل بات قضية سياسية واستراتيجية بامتياز، ومع تراجع هوامش المناورة أمام الحكومات، يصبح السؤال الحقيقي: هل تملك الدولُ الشجاعةَ السياسية لاتخاذ قرارات صعبة اليوم لتجنّب أزمات أكبر غداً؟ أم إن العالم يتجه، ببطء ولكن بثبات، نحو لحظة انفجار تعيد رسم قواعد النظام المالي الدولي؟
في ظل هذه المعطيات، يبدو أن الإجابة لم تُحسم بعد، لكن المؤكد أن مرحلة الديون السهلة قد انتهت، وأن الأعوام المقبلة ستكون اختباراً قاسياً لقدرة الاقتصادات الكبرى على التكيّف مع واقع مالي جديد.
اندبندنت عربية