عندما ظهرت الجزيرة في منتصف التسعينيات من القرن العشرين لم يكن أحد لا في العالم العربي ولا في غيره يتوقع أن تكون هناك قناة إعلامية جادة خارج المألوف في الإعلام العربي وان تخرق جميع السقوف وتعلوها وان تجتاز جميع الخطوط الحمراء وان تفتح جميع الملفات المسكوت عنها والتي لا يستطيع احد أن يقترب منها وان تخرج الخبأ الذي يعلوه الركام والغبار المتراكم منذ عقود,وأنها ممكن أن تتمتع بهذا القدر من حرية الرأي والتعبير في ظل هذا الواقع العربي مكتوم الأنفاس,فمن كان يجرؤ قبل الجزيرة أن يقترب من الخطوط الحمراء التي ملئت بها الأنظمة العالم العربي,فالإعلام في العالم العربي رسالته هي(الهتك والفتك والنخر والكذب والخداع والتسبيح بحمد الحاكم )ولا يوجد فيه إلا رأي واحد وهو رأي الحاكم, والتعبير هو فقط عن وجهة نظر الحاكم الطاغي الظالم,ومن يجرؤ على فتح فمه إلا عند طبيب الأسنان,فلسان حال هذا الإعلام البأس هو لسان حال فرعون
(قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ)]غافر:29 [
فإذا بالشعوب العربية تقف أمام ظاهرة ينطبق عليها(صدق أولا تصدق)وهذه الظاهرة هي برنامج(الاتجاه المعاكس)المنبثق من الجزيرة,وإذا بالشعوب العربية من المحيط إلى الخليج تتساءل بينها وفي أنفسها
هل من المعقول أن يكون هناك برنامج سياسي في العالم العربي الفاقد للحرية يتمتع بهذا السقف العالي جدا من الحرية؟؟وهل هناك أناس في العالم العربي ممكن أن يفتحوا فمهم وهم ثائرون غاضبون على هذا الواقع ويطالبون بتغييره من على منبر إعلام عربي ؟؟
فكان هذا البرنامج حقا بمثابة إعلان ثورة في الإعلام العربي,والذي ارتبط اسمه باسم مقدمه الإعلامي الاستثنائي(فيصل القاسم) الذي سحر الجماهير بأسلوبه الاستثنائيالذي يقدم به البرنامج,وهو أسلوب غير مألوف عند الجماهير العربية ولا موضوع البرنامج,ففي تاريخ الإعلام العربي لم يحصل شخصية إعلامية على اهتمام الجماهير وبين أخذ ورد مثل مقدم برنامج الاتجاه المعاكس فيصل القاسم,فقد يقول قائل أن(احمد سعيد مذيع صوت العرب الشهيرقبل حرب 1967)اخذ مثل هذه الشهرة والاهتمام عند الجماهير العربية,فنقول لهؤلاء نعم أن هذا صحيح ولكن الفرق بين فيصل القاسم واحمد سعيد كالفرق بين الثرى والثريا,فاحمد سعيد كان يعمل على تخدير وعي الجماهير وتغيب فكرها وعقلها من خلال صناعة الأكاذيب والانتصارات والانجازات الوهمية لفرعون والحاكم الطاغية الظالم,ولم يكن يقول الحقيقة,فسارت الجماهير إلى المذبح خلف ذابحيها وهي ترقص وتغني وتطبل وتزمر,وهي تظن أن السراب ماءا,فكانت النتيجة خزي وعار وذل وهوان وكارثة وهزيمة اغرب من الخيال في عام 1967 فأحمد سعيد كان مخدر للجماهيرساهم في نسج هذا الواقع الكريه .
أما فيصل القاسم فهو مدرسة إعلامية مميزة وغير معهودة في الإعلام العربي,رسالتها إيقاظ الوعي لدى الجماهير حتى لا تتكرر هزيمة 1967من خلال تحطيم وهدم حاجز الخوف الذي كانت الشعوب العربية تقف خلفه مرعوبة مذعورة,فبرنامجه يحارب ثقافة الخوف والذعر والرعب والعبودية التي تبثها الأنظمة في نفوس الشعوب العربيةوإظهار الحقيقة كما هي,فهو يقول الحقيقة مهما كانت مُرة ولا يُجامل في الحق نظاما عربيا واحدا,فهو لا يتردد بفتح أي ملف من ملفات الأنظمة العربية مهما كان هذا الملف خطيرا وممنوع الاقتراب منه,لذلك إن(فيصل القاسم)وبرنامجه أصاب الحكام العرب والأنظمة العربية بالخوف والذعر والرعب,فهو حقا استطاع أن يُرعب الأنظمة العربية ويعمل على تمزيق الواقع الذي ساهم في إيجاده(احمد سعيد)وغيره من الإعلاميين المطبلين والمزمرين ,فحقا انهإعلامي استثنائي لفت انتباه الشعوب العربية بقوة,فهو على درجة عالية من الذكاء والفطنة والقدرة على إدارة الحوار,ففي تاريخ الإعلام العربي لم يوجد برنامج تلفزيوني شد انتباه الجماهير إلى شاشة التلفاز وجعلها تترقبه أسبوعيا على أحر من الجمر إلا الاتجاه المعاكس,حتى أن الجماهير من المحيط إلى الخليج تخزن في عقلها التوقيت الأسبوعي لهذا البرنامج,فلا يوجد عائلة في العالم العربي لا تحفظ هذا التوقيت يوم الثلاثاء الساعة السابعة مساء بتوقيت غرينتش,بل إن هذا البرنامج كان سببا في انتشار أجهزة الستالايت في المنازل العربية,فكثير من الناس اشتروا الستالايت من اجل مشاهدة هذا البرنامج الثورة.
ونتيجة النجاح الكاسح لبرنامجه والذي بحق هو(العامود الفقري لجميع برامج الجزيرة)فلا تذكر الجزيرة إلا ويُذكر(الاتجاه المعاكس وفيصل القاسم)عملت الكثير من القنوات العربية على تقليده ولكن بسقوف منخفضة تتوافق مع انخفاض رؤوس الأنظمة التابعة لها,وقام الكثير من المذيعين بتقليد أسلوب فيصل القاسم بالتقديم ولكن بطريقة ساذجة وغير مقنعة,انه تقليد رديء وغير متقن,فهل يستطيع مذيع في قناة عربية الاقتراب من المواضيع التي يقترب منها فيصل القاسم,فمواضيعه تتحدث عن قضايا الأمة المصيرية وعن هموم الجماهير والشعوب العربية,وعن الخبأ في سياسة الأنظمة العربية وما يدور وراء الكواليس,فهو في برنامجه يجتاز جميع الخطوط الحمراء ويدخل في حقول الألغام,ويختار ضيوفه من الكتاب والمفكرين والمثقفين المقموعين والذين لا منبر لهم بل أن منابر الإعلام العربي محرمة عليهم,وكثير منهم من المغمورين,فهو يبحث عن هؤلاء الغاضبين الناقمين على الأوضاع في العالم العربي,والذين لديهم استعداد أن يقولوا ما يعتقدون دون لف ولا دوران وبصراحة ليفضحوا هذا الواقع ويوضحوا ويظهروا مواطن الخلل الخطيرة في هذا الواقع وأسباب تخلف العالم العربي وأسباب الذل والهوان والإحباط واليأس التي تنسج هذا الواقع,ويأتي في مقابلهم من المدافعين عن هذا الواقع ومن المستفيدين منه ومن الأنظمة,ودائما تكون حجة هؤلاء ضعيفة وليبين النوعية الرديئة التي تدافع عن الأنظمة وهي في معظمها نوعية انتهازية ووصولية وغير مبدئية.
فلو راجعنا أرشيف(الاتجاه المعاكس)فإننا سنجد كثيرا من الحلقات الغاضبة الثائرة والتي تندرج في هذا السياق,والتي تتحدث عن هذا الواقع الذي تعيشه الشعوب العربية,وسنأتي على ذكر بعض هذه الحلقات لان ذكر جميع الحلقات سيأخذ حيزاً كبيرا لا يتسع له هذا المقام,فبرنامج الاتجاه المعاكس ومقدمه فيصل القاسم ودوره في ثورة الشعوب العربية على أنظمة الظلم والقهر والطغيان المتسلطة عليها يستحق أن يقدم به رسالة دكتوراه,فحقا أن فيصل القاسم وبرنامجه الاتجاه المعاكس يعتبر علامة فارقة في تاريخ العالم العربي الإعلامي,بل انه المقدمة الحقيقة لثورة الشعوب العربية التي اندلعت شرارتها الأولى من تونس.
إن هناك من يهاجمون هذا البرنامج ومقدمه ممن يُسمون أنفسهم ب(النخبة) بحُجة أن هذا البرنامج يعتمد على الإثارة والانفعالات والصراخ وبأنه برنامج شعبوي أي شعبي أي يهدف إلى الحصول على رضا الشعب والجماهير,فإننا نقول لهذه(النخبة التافهة)والتي ما هي إلا( نخبة لا ثقافة ولا فكر لديها)وما العيب في أن يكون برنامج (الاتجاه المعاكس)شعبوي وجماهيري وينال رضا الجماهير,فالنجاح الكاسح والمنقطع النظير الذي حققه هذا البرنامج كان بسبب هذه الانفعالات والكلمات الثائرة الغاضبة على الواقع السياسي العربي,فهذا البرنامج يعبر عن هموم الشعوب العربية وقضاياها المصيرية ومكنونات أعماقهم,وحجم الغضب الموجود في البرنامج هو الذي حرك الركود والسكون في الواقع العربي والمياه الساكنة وأيقظ وعي الشعوب العربية على حجم الخراب والدمار المتراكم في هذا الواقع وحرضها على النهوض لتنتفض عنها غبار التاريخ وذل الأيام وظلم الحكام.
وإننا نقول إلى من يهاجمون هذا البرنامج أن مخاطبة الجماهير هو موهبة من الله يتمتع صاحبها بملكات خاصة لا يمتلكها إلا القلة القليلة من الناس,فليس كل من هب ودب أو ادعى بأنه مثقف يستطيع أن يخاطب الجماهير ويؤثر فيها,فالذين استطاعوا أن يغيروا التاريخ سلبا أو إيجابا هم(المثقفون الجماهيريون الحقيقيون الموهوبون أصحاب الرؤيا الواضحة الذين يمتلكون ناصية البلاغة والفصاحة والبيان) فيختارون اللهجة والأسلوب والكلمات المؤثرة المحرضة والمعبرة بدقة عن أوجاع وألام وعذابات وقهر وآمال وطموحات الجماهيروهذه الكلمات تخرج من أفواههم ثائرة غاضبة كأنها طلقات نارية خارقة حارقة تخترق عواطف الجماهير ويكون كل ذلك مترافق مع الحركة الجسدية التي تفعل في النفس فعل الكلمة الساحرة, فالخطباء المفوهون تجدهم دائما عفويون وتلقائيون يترافق مع حديثهم حركات جسدية وهذا يدل على مدى انفعالهم مع ما يقولونه وبذلك يشعلون حماسة الجماهير ويستولون على عقولها وألبابها وعواطفها,فيشعلونها حماسة وبذلك ترخي لهم قيادها فيدفعونها إلى التحرك نحو تحقيق الهدف المطلوب,فالجماهير تقاد من عواطفها وليس من عقولها,فالعاطفة إذا ما استثيرت فهي تحرض العقل على التغير والنهوض فالعقل لا يمكن أن يستيقظ إذا لم تستثيره .
فالجماهير دائما تنقاد إلى من يخرج من أعماقها وهو يحمل همومها وعذاباتها وقهرها وآلامها الناتجة عن أزماتها التي تكابدها يوميا سواء كانت أزمات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية,فقيادة الجماهير نحو المجد والعزة والكرامة والحياة الكريمة الفضلى لا تليق إلا بالمثقفين الحقيقيين الذين لا يترددون ولا يجبنون عن تحمل المسؤولية ومواجهتها ويغردون خارج السرب,وهذا ما يقوم به برنامج(الاتجاه المعاكس)لذلك إن الاعتراض على برنامج(الاتجاه المعاكس)الذي يُعبر عن هموم الأمة وعذاباتها وقهرها وواقعها بصوت عال ومرتفع وبانفعال واضح وبكلمات ثائرة غاضبةمن قبل دعاة الفكر بالقول
(( لماذا هذا لانفعال ؟؟؟؟ ولماذا هذا الغضب ؟؟؟ ولماذا هذه الثورة ؟؟؟؟)
عليه أن يعلم أن سبب جماهيرية وشعبية هذا البرنامج ومقدمه هو(حجم الغضب والانفعال والثورة الموجودة فيه)فالذي لا يغضب ولا يثور ولا ينفعل في ظل هذا الواقع البائس اليائس المقهور المكسور إنما هو فاقد للإحساس وللشعور ومتبلد الحس وإما إنسان جاهل وغبي وأبله لا يدري ماذا يدور حوله ومثقف مزور ومزيف ,فالذي ينفعل ويصبح يصيح ويصرخ بأعلى صوته بصدق إنما هو يصيح ويصرخ من شدة الألم والوجع ووطأة الظلم والقهر الذي يشعر ويحس به,فهو ليس ندابة وإنما يعبر عن وجع الأمة ويحرض بأسلوب غاضب وتأثر بكلمات ثائرة وغاضبة,ومن اجل أن يكون هذا الأسلوب مؤثراً يخترق القلوب يجب أن يكون الانفعال ذاتياً صادقاً ومخلصاً لا يهدف إلى استجداء رضا الجماهير .
وعلينا أن نعلم بأن الجماهير دائما تخضع لقوة الكلمة,فالأحداث التاريخية والمعارك الفاصلة والانتفاضات الشعبية الكبرى في التاريخ والتي كانت كالبركان وغيرت وجه التاريخ إنما كانت تعبيرا وانفجارا لما يختلج في النفوس المحتقنة والذي فجرها الكلمة الغاضبة الثائرة والمشتعلة بالحماسة واللهب,والتي تجعل الجماهير تحتشد وراء الفكرة أو القائد أو الزعيم الذي يريد أن يُحقق هدف ما,فالخطاب الجماهيري المفعم بالكلمات الثائرة والغاضبة هي التي تفجر طاقات الجماهير وتحول ركودها وسكونها وتراجعها إلى الخلف إلى فعل وحركة واندفاع للأمام,فالمثقف الجماهيريالناجح والمؤثر هو المثقف المفوه الذي لديه مقدرة على أن يصوغ أسلوبه بأسلوب ساحر وكلمات بليغة مؤثرة تنفذ بقوة إلى قلوب الناس وتستقر فيها وتؤثر فيهم و تستثير عواطفهم وتهز مشاعرهم وتستفز خصومهم مما يجعله قادر على أن يخطف الأبصار ويقتحم القلوب بقوة وينتزع تصفيق الجمهور بحرارة وينال رضاهم.
إن الشعوب لا يُغير مصيرها ويوقظها ويحرك سكونها وركودها إلا عاصفة من المشاعر والعواطف الجامحة المحرقة الملتهبة المشتعلة بنيران الغضب ولا يمكن أن يُشعل هذه العواطف والمشاعر إلا الكلمات الخارقة التي تنفذ إلى القلوب,وليس الكلام المزوق والمنمق والمرتب الصادرمن الذين يدّعون أنهم النخبة المثقفة التي تعتبر نفسها فوق الجماهير وهمومها وأحاسيسها فتنظر للجماهير نظرة فوقية فيها استكبار وتعالي,فالذي يكون هكذا كيف له أن يُغير في الواقع أو يؤثر فيه بهذه الثرثرات التي ما هي إلا ترف فكري وتجديف في الرمال,فكل كلام منمق يُقال أو يُكتب لا يُحرك الجماهير أو يؤثر فيها فهو كلام تافه كصاحبه.
إن حركات التغير لم تكن يوما وليدة الأسلوب الإنشائي والكلام المنمق المنمق أو من صنع رواد الصالونات المنظرين التافهين الذين يضعون رجل على رجل وهم ينفثون دخان سيجارهم أو غليونهم ويثرثرون بتؤدة ودلال وبتعالي على الجماهير, فهؤلاء كلامهم يذهب مع الريح,فالكلام المُنمق والمُرتب والخالي من الانفعالات لا يمكن أن يكون خارجا من القلب والذي لا يخرج من القلب لا يمكن أن يصل إلى الجماهير أو يؤثر فيها أو يشد انتباهها أو يؤثر في عواطفها أو يستقر في عقولها وهي لا تعيره اهتماما ولا يثير اهتمامها ولا تلتفت إليه,فهو كلام فارغ لا يحرك ساكنا ولا يغير واقعا ولا يؤثر في احد ويذهب مع الريح,لذلك فهذه النوعية من دعاة الثقافة عندما يظهرون على الشاشة يمرون دون أن يلتفت إليهم أحد بعكس ضيوف (الاتجاه المعاكس) فإنهم يرسخون في ذهن الجماهير.




