آراء وأقلام نُشر

بين الوزارة والغرفة... حين يلتقي رأس الاقتصاد برأس السوق

قرار التوطين وتجميده مؤقتًا فتح بابًا مهمًا للحوار بين القطاعين العام والخاص، فهل تتحول التطلعات المشتركة إلى شراكة اقتصادية ناضجة؟

بين الوزارة والغرفة... حين يلتقي رأس الاقتصاد برأس السوق

في الوقت الذي تسعى فيه دول العالم إلى تعزيز الانفتاح والتكامل الاقتصادي، تتبنى بعض الحكومات سياسات تهدف إلى حماية الإنتاج الوطني وتعزيز مفهوم التوطين، وهي أهداف مشروعة من حيث المبدأ، بل ضرورة في بعض السياقات، لكنها تحتاج إلى آليات تنفيذ مرنة ومدروسة تراعي قدرات السوق المحلية، وخصوصية المرحلة.

هذا ما جرى في صنعاء مؤخرًا، حين صدر قرار بتوطين استيراد عدد من السلع كخطوة في اتجاه دعم التصنيع المحلي وتشجيع الاعتماد على الذات، وقد قوبلت هذه الخطوة بتفاعل واسع من القطاع التجاري الذي طرح وجهة نظره بخصوص جاهزية السوق وآليات التطبيق، بما في ذلك ضرورة التدرج ومراعاة الواقع الإنتاجي الراهن.

وقد أبدت وزارة الاقتصاد والصناعة والاستثمار استجابة مرنة لهذه المخاوف، وأعلنت تجميد القرار مؤقتًا لإعادة النظر في آلياته التنفيذية، وهو ما يُعد مؤشراً إيجابياً على حرص الوزارة على فتح قنوات الحوار وتكامل الرؤية مع مختلف الأطراف ذات العلاقة.

شراكة لا مواجهة

ما حدث لا يُظهر تناقضًا بقدر ما يُبرز رغبة مشتركة لدى الطرفين في تحقيق الهدف ذاته – أي تعزيز الصناعة الوطنية – ولكن بأساليب تضمن التوازن والاستقرار:

* من جانب الوزارة: توجّه استراتيجي نحو تقليل الاعتماد على الاستيراد ودعم المنتج المحلي.

* ومن جانب الغرفة التجارية: حرص على الحفاظ على توازن السوق وعدم التسرع في خطوات قد تؤثر على المعروض أو الأسعار.

ويُحسب للطرفين – الوزارة والغرفة – الإدارة الواعية لهذا الاختلاف، حيث تم التفاعل مع التحديات بروح من المسؤولية، ما أدى إلى تعليق القرار لا لإلغائه، وفتح باب لمراجعة بنّاءة.

من لحظة تحفظ إلى فرصة بناء

القرار بتعليقه مؤقتًا لا يجب أن يُقرأ على أنه تراجع، بل فرصة لتنظيم المسار بما يضمن تحقيق الأهداف التنموية، دون التأثير سلبًا على السوق أو المواطن.

ومن هنا، يمكن تحويل هذا الموقف إلى خارطة طريق مشتركة تُبنى على أسس اقتصادية واضحة، تشمل:

* تقييم القدرات الصناعية وتحديد أولويات التوطين.

* الاستفادة من الموارد الوطنية في صناعات نوعية تميز اليمن.

* وضع جدول زمني للتوطين التدريجي، يرتبط بمعايير جودة وتنافسية.

* ربط التوطين بحوافز للمستثمرين، بدلًا من الاكتفاء بأدوات المنع، أو تحميل القوى الشرائية أعباء عدم كفاية المنتج الوطني.

التوازن هو الأساس

إدارة الاقتصاد لا تقوم على الإملاء أو الانغلاق، بل على الموازنة بين الطموحات الوطنية والواقع الإنتاجي، وهو ما يتطلب:

* تمكين الصناعات المحلية، بالتوازي مع استيراد منظم يحفظ استقرار السوق.

* خلق بيئة تنافسية عادلة، تتكامل فيها الحماية مع الانفتاح.

* تحسين جودة المنتج المحلي ليكون بديلاً حقيقياً وسلعة قابلة للتصدير وجلب العملة الصعبة لا مفروضاً.

* ضمان شراكة مؤسسية في صناعة القرار الاقتصادي، لا مفاجآت أو إقصاء.

 

وأخيرا،

لقد أظهرت هذه التجربة أن التفاعل المتزن بين رأس الاقتصاد الرسمي ورأس السوق الفعلي يمكن أن يُثمر قرارات أكثر نضجًا وواقعية، وما حدث ليس تراجعًا عن هدف، بل مراجعة حكيمة لأدوات التنفيذ.

قرار التوطين لم يُلغَ، بل وُضع في مساره الصحيح: التدرج، التخطيط، ثم التنفيذ بتوافق وشراكة.

الفرصة متاحة اليوم لبناء نموذج اقتصادي تشاركي، تُصاغ فيه السياسات بالتفاهم لا الانفراد، وتُنفذ بخطى ثابتة تحقق مصلحة المواطن والبلد معًا.

 

محمد عبدالله الصريمي

خبير اقتصادي

مواضيع ذات صلة :