اقتصاد خليجي نُشر

تزايد الإنفاق الحكومي يعظم همينة القطاع العام على الاقتصادات الخليجية

 

التحذيرات التي أطلقتها مؤسسات دولية لدول الخليج العربي بمراقبة التوسع في إنفاق موازناتها الحكومية على المدى البعيد خشية حدوث عجوزات مالية يصعب تفاديها لاحقا. هذه التحذيرات تطال في جوانبها الرئيسة الأخرى مخاوف من أي يؤدي ذلك أيضا إلى إعادة العصر الذهبي للقطاع العام الخليجي، وتعاظم نفوذه وهيمنته، وبالتالي تهديد التوجهات الاستراتيجية لدول المنطقة بجعل القطاع الخاص محركا لعجلة النشاط الاقتصادي.

 

وصحيح أن الأزمة الراهنة التي نشبت عام 2008 أثبتت استحالة التخلي عن دور الحكومات في إنقاذ وتحريك اقتصاداتها متى ما استدعت الحاجة ذلك، حيث سارعت كل الدول المتقدمة دون استثناء بتدشين خطط لإنقاذ مصارفها وشركاتها من خلال خطط مباشرة للتدخل والدعم، إلا أن هذه الحالة تظل مؤقتة، ويبقى السؤال عن ماهية دور الحكومات في الاقتصاد على المدى البعيد هل هو محرك أم منظم؟

 

ويسود الاعتقاد حاليا أن القطاع العام الخليجي يولد أكثر من ثلثي النواتج المحلية الإجمالية، وهذا يعني بالمطلق أنه بات محركا للنشاط الاقتصادي في دول المجلس، بعكس ما هو مطروح من شعارات ودعوات بتمكين القطاع الخاص من لعب الدور الرئيسي في هذا المجال، وهذا يترتب عليه في المدى البعيد رهن برامج وخطط التنمية الاقتصادية الخليجية بدور القطاع العام والإيرادات النفطية. كما يلاحظ أن الجزء الأعظم من إنفاق القطاع العام على مشاريع البينة التحتية، وهذا النمط من المشاريع غير مولد للوظائف الجديدة الموجهة للمواطنين بقدر ما تقوم بها شركات وطنية إما قائمة حاليا أو بالتعاقدات مع شركات خارجية.

 

وتتعاظم أهمية هذه النتائج المترتبة على هذا النهج إذا ما أخذنا في الحسبان أن دول الخليج العربي ستواجه تحديات غير مسبوقة خلال هذا العقد والعقد القادم في مجال التنمية البشرية وإيجاد الوظائف المناسبة للمواطنين وذلك بالنظر للتبدلات الهيكلية في أعداد ونوعية الداخلين إلى أسواق العمل، علاوة على التغييرات البنيوية في الاقتصاد، حيث لم يعد القطاع العام قادرا على توليد الوظائف الكافية للمواطنين.

 

ويقول تقرير صادر عن البنك الدولي حول تحديات التنمية البشرية وأسواق العمل في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إن دول المجلس ستحتاج إلى توفير نحو خمسة إلى ثمانية ملايين فرصة عمل جديدة حتى عام 2020 وذلك من مجموع 80 مليون فرصة عمل مطلوب توفيرها في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ويبلغ إجمالي قوة العمل في هذه الدول 110 ملايين شخص في عام 2011. ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى 185 مليوناً بحلول عام 2020.

 

وأضاف التقرير أن هؤلاء القادمين الجدد إلى أسواق العمل هم أكثر تعليماً وشباباً وإناثا، فقد تزايد معدل نمو القوة العاملة في المنطقة بنسبة 3 في المائة سنوياً بين عامي 1970 و 2000. ومن المتوقع إن يزداد هذا المعدل إلى 3.5 في المائة سنوياً بين عامي 2000 و 2020، ولا يتوقع انخفاض الضغط على أسواق العمل إلى النسب المعتدلة التي عرفتها المنطقة خلال ستينيات القرن العشرين قبل عام 2030.

 

إن الأنماط القديمة لخلق فرص العمل لم تعد قابلة للاستمرار، كما أن الكثير من الأنظمة التقليدية لخلق فرص العمل في المنطقة مرشحة للزوال سريعاً. فقد مثل القطاع العام المحرك الأساسي لخلق فرص العمل خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. واستمر يلعب دورا مهما خلال التسعينيات. ويوظف القطاع العام اليوم ثلث القوة العاملة في المنطقة. وتصل هذه النسبة إلى 80 في المائة في عدد من دول مجلس التعاون الخليجي.

 

ولكن لا يمكن للقطاع العام أن يستمر في دور المنفذ للتوظيف الذي لعبه سابقاً. فتشير الدلائل عبر منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى أن معظم فروع القطاع العام تعاني تضخما في عدد الموظفين بلغ الثلث أو أكثر في بعض دول المنطقة، ويؤدي إلى تآكل متواصل في الإنتاجية. وحتى إذا وضعت الخسائر في الفعالية جانباً، فإن استراتيجية تأمين فرص العمل للأعداد الهائلة من العاطلين عن العمل والقادمين الجدد إلى سوق العمل لم تعد قابلة للاستدامة في ظل التغيير الجذري في الأوضاع الاقتصادية في دول المنطقة. وما لم تتسارع وتيرة خلق فرص العمل في القطاع الخاص المنظم، فسيتم دفع أعداد متزايدة من الداخلين الجدد إلى سوق العمل نحو الاقتصاد غير المنظم.

 

وتشير التوقعات للعقد المقبل إلى أن أسعار النفط وعلى الرغم من الزيادة الكبيرة في الوقت الحاضر، فأنها قد تراوح في نطاق محدود على المدى البعيد.

 

وحتى على فرضية بقائها مرتفعة، فإن هوامش الفوائض منها ستتقلص بحكم الاحتياجات المتزايدة لمشاريع البينة التحتية والتنمية والنمو السكاني. كما يتوقع أيضا انخفاض مستوى تدفقات المساعدات الخارجية للسبب المذكور نفسه. أما فيما يخص تحويلات العمالة فإنه من غير المرجح ارتفاعها بنسب مهمة، وذلك نتيجة تناقص فرص هجرة العمالة.

 

كما أن المحركات التقليدية لخلق فرص العمل في دول المنطقة لم تعد قادرة على مواجهة تحدي العمالة في القرن الـ 21. وعلى هذه الدول أن أرادت التعامل مع تحديات التنمية البشرية وأسواق العمل أن تحدث تحولات بنيوية رئيسة.

 

أول هذه التحولات هو العمل على تحويل الاقتصادات الخليجية من اقتصادات متقلبة ومعتمدة على النفط إلى اقتصادات أكثر استقراراً وتنوعاً وذلك من خلال استحداث تغييرات جوهرية في المؤسسات التي تقوم بإدارة موارد النفط ،وفي كيفية تحويل هذه الموارد باتجاه القوى الاقتصادية. وقد أضحى التنوع الاقتصادي أولوية متزايدة، حيث شهدت حصة الفرد من الصادرات النفطية خلال العقدين الماضيين انخفاضاً مستمراً وذلك نتيجة عدة عوامل كانخفاض أسعار النفط الحقيقية وارتفاع الطلب المحلي على النفط، والنمو السكاني السريع. وأصبح التنوع ضرورة ملحة في بلدان مثل البحرين وعمان حيث أوشكت الاحتياطات النفطية على النضوب.

 

وثانيا والأكثر أهمية هو وضع استراتيجيات مقاومة لزيادة أسعار النفط من أجل تحويل الاقتصاد من هيمنة القطاع العام إلى هيمنة القطاع الخاص وذلك عبر خفض العقبات أمام النشاطات الخاصة مع وضع أطر تنظيمية تحقق التعاضد المتبادل بين المصالح العامة والخاصة. وتعتبر مساهمة القطاع الخاص في القيمة المضافة متدنية مقارنة بمناطق أخرى. لذلك، فإن المجال لتوسع الاستثمارات الخاصة في دول الخليج كبير جدا، ولكنه يحتاج إلى بيئة اقتصادية واجتماعية مواتية.

 
الإقتصادية

 

مواضيع ذات صلة :