لم يصادف غاري فاينرتشوك، الذي يشتغل بالتسويق عبر الإنترنت ويروج بحماس لكل ما يستهويه، نزعةً سائدة جديدة إلا وأحبها، بعدما روّج لبعض موجات الهوس بما خالط قطاع التشفير، مثل "ويب 3" (web3) والرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs)، يختبر فاينرتشوك الآن استخدامات الذكاء الاصطناعي التوليدي، وهو يجرب أدوات لترجمة البودكاست والفيديو الذي ينتجه تلقائياً لجميع اللغات.
يعتقد فاينرتشوك أنَّ هذه التقنية جيدة جداً. قال وهو يجلس حافي القدمين على كرسي مرتفع في يخت شركته الراسي قرب موقع مهرجان "كان ليونز" الدولي للإبداع بجنوب فرنسا: "يمثل الأمر أيضاً ثورة في كل الأعمال الإبداعية. بإمكاني مثلاً أن أكتب أغنية تلقى رواجاً كبيراً الآن تستند لآخر 500 أغنية لاقت رواجاً".
لكنَّ فاينرتشوك، الذي يدير "فاينرميديا" (VaynerMedia)، لن يستخدم الذكاء الاصطناعي في نشاطه الأساسي؛ وهو صناعة الإعلانات لكبريات الشركات، هنالك مخاوف كثيرة بشأن العلامات التجارية وحقوق النشر وأمن البيانات تحيط بالذكاء الاصطناعي التوليدي حالياً، قال فاينرتشوك: "قد يكون الأمر غريباً بعض الشيء لدى العلامات التجارية، فهي تشعر بالقلق".
احتفاء بالإعلانات المتميزة
كما أنَّ مهرجان "كان" يتسم بشيء من الغرابة. لقد احتفى المهرجان، الذي عُقدت دورته السبعين في يونيو، بالإعلانات التجارية المتميزة، كما حيّد الواقع الاقتصادي لمدة أسبوع، أقامت وكالات الإعلانات، التي تلاطم التضخم الذي يلوح في الأفق، أعشية مترفة لعملائها.
كما استضافت شركات التقنية، التي سرّحت الآلاف من موظفيها، فعاليات على مساحات ضخمة من الشواطئ، وقدِّمت فيها النبيذ الوردي وأقامت حفلات ساهرة، كان نجومها من فرق مثل "فو فايترز"، ومغنين مثل أساب روكي وليزو. فيما تكالب مسؤولون تنفيذيون تخطوا سن الأربعين لدخول حفلة تنسق أغانيها باريس هيلتون.
الجديد في نسخة 2023 من المهرجان هو أنَّ الجميع كان يتحدث عن الذكاء الاصطناعي التوليدي، وقد بات هذا الاسم الرائج عبارة سحرية تُثبت أنَّ من يستخدمها يتبنى المستقبل. تُحبذ الشركات التي تبني أدوات الذكاء الاصطناعي أن تقول إنَّها صناعة الإعلانات باعتبارها تمثل مستخدماً طبيعياً أولياً للذكاء الاصطناعي. تشير توقُّعات إلى أنَّ نشاط الإعلانات الرقمية المنتجة بمساعدة الذكاء الاصطناعي سيدخل 192 مليار دولار سنوياً بحلول 2032، وفقاً لأبحاث "بلومبرغ إنتليجنس".
حتى في مهده، أظهر الذكاء الاصطناعي التوليدي أنَّ الآلات بإمكانها كتابة النصوص وتوليد صور افتراضية تبدو حقيقية. قد تبدأ هذه الأدوات قريباً بإنتاج الإعلانات التلفزيونية بنفسها، وبأسرع وأرخص مما يقدر عليه البشر. كما أنَّ هناك احتمال زيادة أتمتة العمليات واسعة النطاق التي يستخدمها قطاع صناعة الإعلانات لإقناعك بشراء المنتجات.
تغير هائل
وصف السير مارتن سوريل، الرائد في الإعلان ومؤسس شركة "إس 4 كابيتال" (S4 Capital) والرئيس التنفيذي لمجلس إدارتها، الأمر بأنَّه "تغير هائل". لم يكن لديه وقت ليتحدث عن هذا التغيير خلال فعالية "كان" سوى على ظهر قارب في طريقه لاجتماعه التالي. فيما ينطلق الزورق؛ يشير سوريل إلى خيمة وكالة الإعلانات العملاقة "دبليو بي بي" (WPP) على الشاطئ، وهي شركته السابقة التي توظف الآلاف لتدير شراء إعلانات لعملائها. لكن يتوقَّع سوريل ألا يستمر ذلك لفترة طويلة.
تساءل قائلاً: "لماذا تعتمد على شاب عمره 25 عاماً للتخطيط الإعلامي إن كانت لديك خوارزمية؟" يسرد سوريل كيف أنَّ والدة شابة من صغار موظفي وكالة أخرى سألته أخيراً إن كانت وظيفة ابنتها مهددة بالزوال، وأنَّه أجابها بأنَّه ينبغي على ابنتها أن تتعلّم استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي بمهارة و"بأقصى سرعة ممكنة".
وصل الزورق إلى جزيرة سانت مارغريت، حيث كان سوريل متجهاً لحضور غداء في أجواء ودية تستضيفه شركة "سيلزفورس" (Salesforce). كان الذكاء الاصطناعي موضوع النقاش أثناء الغداء.
في المهرجان، تباهت شركات الإعلانات بالطرق التي تستطيع بها روبوتات الدردشة ابتكار أفكار لحملات إعلانية أو استبيانات للمستهلكين خلال دقائق، ويقلّص هذا مدة ما تسميه شركة "آد لانت" (Ad Land) عملية "تكوين الأفكار" بعدة أيام أو أسابيع. تمسَّك المسؤولون التنفيذيون في أغلب الوقت بفكرة أنَّ تلك التقنية المبهرة ستعيد توزيع الوظائف في شركاتهم، لكنَّها لن تعصف بها بالكامل.
قالت شيري باكستين، الرئيسة التنفيذية لشركة "ويذر" (Weather)، وهي تابعة لشركة "آي بي إم" التي تبيع تقنيات الإعلانات: "يعزز الأمر تعاملات البشر، ولا يحل محلهم". دعت "ويذر" ضيوفها في "كان" لقضاء سهرة في مطعم حاصل على نجمة ميشلان. قال الرئيس التنفيذي لـ"آي بي إم" مؤخراً إنَّ أنظمة الذكاء الاصطناعي قد تحل محل 30% من موظفيه في مكاتب الدعم خلال خمس سنوات.
مزيد من الوظائف
يؤمن جوناثان نيلسون، الرئيس التنفيذي لـ"أومنيكوم ديجيتال" (Omnicom Digital)، أنَّ وكالته ستضيف مزيداً من الوظائف خلال الأعوام القليلة المقبلة، إذ ستُعيِّن مبرمجين لتدريب أدوات الذكاء الاصطناعي على التسويق تحديداً. قال نيلسون: "على أي شخص ما أن يتولى كل هذه المهام".
هناك إجماع واسع النطاق حول فكرة أنَّه حتى لو كان بإمكان الذكاء الاصطناعي توليد إعلانات جذابة بمفرده؛ ستظل الخوارزميات بحاجة لإبداع المحترفين في مجال الدعاية الإعلانية. قال دايفيد دروغا، الرئيس التنفيذي لوكالة الإعلانات "أكسنتشر سونغ" (Accenture Song)، فيما كان يقف على ظهر يخت شركته قريباً من يخت فاينرتشوك: "لا بد أن تظل هناك مساحة لكل ما هو جديد وأصيل ولكسر القواعد". قطعت طائرة هليكوبتر حديث دروغا، الذي خمّن أنَّها تقلّ جيف بيزوس، الذي شوهد يخته العملاق في المياه المتاخمة لمدينة كان.
هنالك أسباب وراء شعور المبدعين بالأمان على المدى القصير. عادةً ما تخطئ أدوات الذكاء الاصطناعي الرائجة للصور، مثل "ميدجورني" (Midjourney) و"ستيبل ديفيوجن" (Stable Diffusion)، في كتابة أسماء العلامات التجارية، ولا تتقن إنتاج شعارات الشركات.
الأدهى من ذلك هو أنَّ النماذج المتاحة قد تدربت على بيانات من الإنترنت المفتوح دون أي اعتبار لحقوق النشر. شعر رايان ديترت، الرئيس التنفيذي لـ"إنفلوينشيال" (Influential)، وهي شركة للتسويق عبر صانعي المحتوى، بالحماس بشأن إمكانيات الاستفادة من الذكاء الاصطناعي التوليدي. حصلت الشركة على موقع لها على الشاطئ في مهرجان "كان" للمرة الأولى، بعد أن تخلّت "تويتر" عن موقعها.
تخيَّل صانعو المحتوى أنَّهم يعقدون صفقات رعاية من باريس دون الحاجة لترك منزلهم، أو أن يلعبوا دور بطولة بالشراكة مع صورة رمزية رقمية للمغني فرانك سيناترا. لكنَّ كل هذه الأمور افتراضية، إذ إنَّ الخوف من التعدي على حقوق علامات تجارية مكلفة يجعله ينأى عن التقنية حالياً، كما هو حال فاينرتشوك. قال ديترت متحسراً: "حتى برج إيفل له حقوق ملكية فكرية".
شراكات جديدة
قد يكون هذا الأمر مجرد عقبة مؤقتة. في مهرجان "كان"، قال مارك ريد، رئيس "دبليو بي بي" التنفيذي، إنَّ إبرام صفقة جديدة مع "إنفيديا" سيتيح لعملائه إجراء تجارب بأدوات الذكاء الاصطناعي باستخدام البيانات التي يملكونها وغيرها من مواد من مصادر معتمدة، مما يقلل المخاوف بشأن الشعارات المغلوطة وانتهاكات العلامات التجارية.
أعلنت شركة "أومنيكوم" عن إبرام شراكات مشابهة مع "أمازون" و"غوغل" و"مايكروسوفت" خلال أسبوع المهرجان.
لسنوات، أعادت وكالات الإعلانات تهيئة أوضاعها كشركات متخصصة في علم البيانات والاستشارات، وليس مجرد شركات إبداعية. ينفق القطاع موارد لا يُستهان بها في توصيل الإعلانات عبر الإنترنت إلى المشترين الأكثر ميلاً للشراء عبر الإنترنت.
نظرياً، يستطيع الذكاء الاصطناعي التوليدي صنع أعداد هائلة من الإعلانات بسرعة شديدة وبتنوع لا ينتهي، لدرجة أنَّه يستطيع بسهولة تصميم لافتات أو إعلانات عبر الإنترنت تستهدف فئات محددة من المتسوقين.
قال ريد: "نحن لم نستخدم الذكاء الاصطناعي بالفعل لاكتشاف ماهية الرسالة الصحيحة. هناك فرصة ضخمة كامنة". بل إنَّ هناك مصطلحاً ينتشر في مهرجان "كان" لهذه الاستراتيجية، وهو "إضفاء الطابع الشخصي بشكل مفرط على نطاق واسع".
برغم ذلك؛ لم تكن سوى ثلّة من الحضور في "كان" تملك أدلة على إنفاق شركات التسويق بشكل كبير على أدوات الذكاء الاصطناعي لتحويل هذه الفكرة إلى واقع. قال دروغا: "إنَّهم يجربون الأمر". ما تزال التجارب الأولية تبدو مختلقة. بدا كل الحديث الدائر عن الذكاء الاصطناعي في جلسات الخبراء وعلى ظهور اليخوت أشبه بالضجة التي أُثيرت العام الماضي حول "ميتافيرس" التي تكاد تختفي تقريباً هذا العام.
يدرك عديد من العاملين في "آد لاند" ميلهم للهاث خلف موجات الهوس. قال دروغا مازحاً: "العام المقبل ستكون صغار الهررة محور الهوس"، صيحات الأمس لا مكان لها في أبرز الاحتفاليات.
اقتصاد الشرق