أدت الحرب التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا، إلى انتعاش اقتصادي بفضل التحفيز الحكومي. وبعد مرور نحو 3 سنوات، تتزايد الإشارات على أن موعد تحمل التبعات قد حان.
ما يزال التفاؤل يسود الوضع في موسكو والمدن الأخرى، إذ تزدحم المطاعم والمتاجر الفاخرة بالعملاء، إلا أن مزيجاً يجمع بين أعلى سعر فائدة على الإطلاق والتضخم المستمر في البلاد، بات يشكل خطراً متزايداً على توقعات عام آخر من النمو المتباطئ للاقتصاد، وإن كان ما يزال مدفوعاً بالحرب.
قال أوليغ فيوغين، المحلل الاقتصادي والمسؤول السابق رفيع المستوى في بنك روسيا المركزي: "انتهت فترة جيدة نسبياً للاقتصاد الروسي، الذي اعتمد على الموارد المتراكمة في السابق. فالتضخم المرتفع يقضي على كل ذلك النجاح الذي يبدو قصير الأجل".
إضافة إلى ذلك، تواجه روسيا العقوبات، وتراجع سعر العملة في الآونة الأخيرة، وتوقعات ضبابية لأسعار النفط، فضلاً عن احتمال ألا تتغلب شريكتها التجارية الكبرى، الصين، على المشكلات الاقتصادية الكبيرة التي تواجهها.
تباطؤ كبير في نمو الاقتصاد
يتوقع بنك روسيا المركزي تراجعاً حاداً في معدل النمو، ليصل إلى 0.5% خلال 2025، مقارنة بتقديرات 3.5% إلى 4% العام الماضي، وألا يعود التضخم إلى المعدل المستهدف عند 4% إلا في 2026.
رغم توقعات وزارة الاقتصاد المتفائلة بأن يصل معدل النمو إلى 2.5% هذا العام، أشار بوتين الشهر الماضي إلى أن تباطؤ الاقتصاد جزء من خطة الحكومة للسيطرة على التضخم.
تمكن الاقتصاد الروسي حتى الآن من مواصلة نشاطه، رغم الجهود الخارجية لعرقلته، كما أن ارتفاع الأجور ساعد في تقليل المعارضة الشعبية للحرب.
وأشار استطلاع آراء أجرته منظمة "ليفادا سنتر" (Levada Center) للبحوث في ديسمبر إلى أن ثلثي المواطنين الروس ما يزالوا متفائلين بالمستقبل، وأن رغم تراجع ثقة المستهلكين في وقت سابق هذا العام عن ذروتها منذ بداية الحرب، إلا أنها ما تزال أعلى من أي فترة خلال 2022.
تباين شعور المواطنين الروس بأي صعوبات ناتجة عن ارتفاع الأسعار، ويرجع ذلك، ضمن أسباب أخرى، إلى أن نقص العمالة أدى إلى ارتفاع الأجور.
وقال سيرغي دميترييف، متخصص تكنولوجيا المعلومات المقيم في موسكو: "إذا تحدثنا عن الطبقة الوسطى، فإنها على ما يرام خلال الفترة الحالية، الأشخاص الأقل ثراءً يشعرون بأزمة أكبر".
أسعار الفائدة تضغط على الشركات
لم تتمكن أسعار الفائدة المرتفعة من كبح ارتفاع الأسعار الذي تجاوز ضعفي المعدل المستهدف، مع ذلك، أبقى بنك روسيا المركزي على سعر الفائدة الأساسي دون تغيير عند 21% في ديسمبر، متجاوزاً أعلى مستوى مسجل بعد الحرب مباشرةً.
جاء قرار عدم رفع تكاليف الاقتراض بعد تزايد انتقادات مجتمع الأعمال بأن المسار الذي ينتهجه البنك المركزي للسيطرة على التضخم أصبح مضراً بشكل يفوق تبعات المشكلة نفسها، وإنه قد يسبب موجة من الإفلاسات.
بدأت تبعات تكاليف الاقتراض القياسية في الظهور، فوكالات السيارات الروسية معرضة لموجة محتملة من الإفلاسات، بحسب شركة "أوتو ستات" (Autostat) للبحوث.
ولفت إدوارد زرنين، الذي شغل منصب رئيس اتحاد مصدري الحبوب في روسيا، إلى أن الأزمة طالت قطاع الزراعة أيضاً، معتبراً أن "خطر الإفلاس يتزايد مع رفع سعر الفائدة الأساسي، عندما يحتاج المزارعون التمويل للزراعة في الربيع، سنرى ما إذا كانت هذه المخاطر ستحقق أم لا".
إعادة النظر في الاستراتيجيات امتد ليشمل الشركات الكبرى أيضاً، فمشغلة خطوط الأنابيب "روسنفت" و"رشان ريل وايز" (Russian Railways) الحكوميتان، خفضتا خطط الاستثمار بشكل حاد، بسبب تكاليف الاقتراض المرتفعة من بين أسباب أخرى.
الشركات الخاصة أيضاً، مثل شركة "سيفرستال" (Severstal) لصناعة الصلب وشركة التعدين "إم إم سي نوريلسك نيكل" (MMC Norilsk Nickel)، تخفض إنفاقها، بينما تدرس "يونايتد كو روسال إنترناشيونال" (United Co. Rusal International)، إحدى أكبر الشركات المنتجة للألمنيوم، خفض الإنتاج بأكثر من 10%، مشيرة إلى أن الوضع الاقتصادي أحد الأسباب وراء القرار.
تأثير سعر النفط
مع ذلك، يتوقع أن تتراجع العقبتان الأكبر أمام الاقتصاد، التضخم وتكاليف الاقتراض المرتفعة، خلال هذا العام. إذ يتوقع البنك المركزي بأن يتراوح معدل التضخم ما بين 4.5% و5% بنهاية العام، وأن يصل متوسط سعر الفائدة الأساسي ما بين 17% و20% خلال 2025.
قالت صوفيا دونيتس، المحللة الاقتصادية لدى شركة "تي إنفستمنتس" (T-Investments)، إلى أن 2025 سيكون "عام التقشف. سيحقق الدائنون مكاسب، بينما قد يواجه المقترضون تحديات مالية".
فيما يخص المستهلكين والشركات، فهذا يعني تراجع القروض المتاحة لتمويل عمليات الشراء والاستثمار.
أضافت دونيتس أن هبوط سعر النفط أحد أكبر المخاطر على الاقتصاد خلال 2025، فأي انخفاض آخر في السعر يعني أنه على الدولة القيام بتضحيات.
أوقفت أوكرانيا في الآونة الأخير عبور الغاز عبر أراضيها، وبينما يُتوقع أن يكون الأثر الاقتصادي طفيفاً، فإنه قد يكبد روسيا تراجع الناتج المحلي الإجمالي بما يتراوح بين 0.2% و0.3%، بحسب تقديرات عدد من المحللين.
تبعات مشكلة المدفوعات الخارجية
تمثل الحرب أيضاً عاملاً مجهولاً آخر. فيشير المحللون لدى مصرف "برومسفياز بنك" (Promsvyasbank) إلى أن الإنهاء السريع للنزاع، على النحو الذي تعهد به الرئيس الأميركي دونالد ترمب، قد يساعد على ارتفاع الروبل، ويعيد المستثمرين الأجانب إلى البلاد، وتعود روسيا إلى جني إيرادات التصدير.
وأشاروا إلى أنه في حالة استمرار المفاوضات لفترة طويلة، فيُتوقع أن يستمر التضخم وتشديد السياسة النقدية، ما سيؤدي إلى تباطؤ نمو الاقتصاد.
كذلك فإن تبعات التراجع الكبير لسعر صرف الروبل مقابل الدولار الأميركي، فضلاً عن مشكلات المدفوعات عبر الحدود الناتجة عن تهديدات العقوبات الأميركية، بدأت في الظهور.
قال يفغيني غورياتشيف، البالغ 50 عاماً ويقيم في موسكو: "نظراً لاستخدامي سيارتي في عملي بخدمة التوصيل، فإن أسعار السيارات الجديدة تشكل عاملاً بالغ الأهمية، وهي ترتفع بالطبع"، وأن الجانب الإيجابي الوحيد هو ظهور السيارات الصينية الأقل سعراً.
أدت المشكلات في المدفوعات العابرة للحدود إلى بطء نقل السلع الأولية، مثل الفحم والألمنيوم.
أشار أليكسي فيديف، النائب السابق لوزير الاقتصاد، إلى أن "مشكلات المدفوعات تمثل المخاطر الرئيسية على روسيا".
هذه القضية بالتزامن مع نقص العملة الأجنبية، جعلت استفادة الشركات الروسية من خيار اقتراض رخيص نسبياً، وهو السندات المقومة باليوان الصيني، أكثر صعوبة، ما أدى إلى تراجع إصدارها خلال النصف الثاني من العام.
خطر الركود
قال نيكينا كولاغين، كبير محللي الاقتصاد الكلي لدى مصرف "سوفكوم بنك" (Sovcombank)، إن تراجع الاستثمار قد يؤدي على الأرجح إلى عدة فصول سنوية تشهد ارتفاعات ضئيلة في الإنتاج، ولكن "لا يوجد ما يدعو إلى توقع حالة ركود".
واختتمت دونيتس بأن التفاؤل لا يطغي على الجميع، "فخطر الركود بلغ أعلى مستوى خلال السنوات الثلاث الماضية أيضاً، وفي بعض الفصول، ربما يكون النمو بالسالب في العام المقبل، أما في الفترة الحالية، ما يزال توقعنا الأساسي هو تحقيق نمو بنهاية العام المقبل، وإن كان أدنى قليلاً من 1%".
اقتصاد الشرق- بلومبيرغ