بطانة الحاكم أو الملك هي حاشيته وخاصته ومستشاروه والمقربون الذين يجالسونه ويحادثونه ويدلون اليه بالرأي. والبطانة الصالحة هي التي تصدق النصح والرأي، وتقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وتدرك أمانة المسؤولية لا استغلالها. وللمستشار مواصفات ضرورية منها: الصلاح في نفسه وذاته، اذ لا يمكن لفاسد أن يشير الا بهواه ومصالحه، ويتكسب على حساب المصلحة العامة، مستغلا قربه من الملك. والصفة الأخرى: الخبرة والنضوج، ليزن الأمور بموازينها، ذو رأي ثاقب بعيد النظر، متأن غير متعجل، مطلع على تاريخ الدول وأحوال الملوك. والصفة الأخرى: الجرأة في الحق، اذ لا خير في صلاح وخبرة ونضج واطلاع لا يرافقها جرأة على الاستخدام وعلى النصح بالحق، والحكام والملوك أحوج ما يكونون الى الرأي المجرد الخالي من الهوى والنفاق، ليكون القرار مبنيا على حقائق ورأي مدروس. ذكر الماوردي أن الخليفة المأمون كتب في اختيار وزير: اني التمست لأموري رجلا جامعا لخصال الخير: ذا عفة في خلائقه واستقامة في طرائقه، هذبته الآداب وأحكمته التجارب ان اؤئتمن على الأسرار قام بها، وان قلد مهمات الأمور نهض بها، يسكته الحلم وينطقه العلم وتكفيه اللحظة وتغنيه اللمحة، له صولة الأمراء وأناة الحكماء وتواضع العلماء وفهم الفقهاء ان أحسن اليه شكر، وان ابتلي بالاساءة صبر، لا يبيع نصيب يومه بحرمان غده، يسترق قلوب الرجال بخلابة لسانه وحسن بيانه.
مزايا وثمرات
ولعل من أبرز ثمرات البطانة الصالحة، المشورة بالرشد والسداد للرأي، قال صلى الله عليه وسلم: المستشار مؤتمن. وقال: من استشاره أخوه المسلم، فأشار عليه بغير رشد فقد خانه. والرسول صلى الله عليه وسلم بين أنه ما من نبي، ولا خليفة، إلا ويقع بين دواعي بطانتين: ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه.
ومن مزايا البطانة إذا صلحت أنها تحول دون شر كبير، وتحض على خير كثير، ومن خطورة البطانة إذا فسدت انها قد تحسن القبيح، أو تقبح الحسن، وقد وصف الإمام أشهب بطانة الحاكم بقوله: وليكن ثقة مأمونا فطنا عاقلا، لأن المصيبة إنما تدخل على الحاكم المأمون من قبوله قول من لا يوثق به، إذا كان هو حسن الظن به. والبطانة الفاسدة، هي التي تزين للحاكم الباطل، وتستدرجه نحو الفساد، وتحجب عنه الحق.
ان حسن اختيار الجلساء والأصحاب، أمر مهم جدا، فالصاحب ساحب والنفوس المتماثلة تتجاذب فيما بينها، قال صلى الله عليه وسلم: المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل، وقد كان سلف الأمة يحرصون على الأنس بالجليس الصالح، والصاحب التقي، الذي يعين على الخير، ويزيل وحشة الغربة، وقد ورد عن علقمة انه حين قدم الشام غريبا دعا: اللهم يسر لي جليسا صالحا.
وقال صلى الله عليه وسلم: لا تصاحب إلا مؤمنا. وقال: خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه. وأولى الناس بالتقريب، هم أهل العلم والصلاح، ولذلك فقد كانت بطانة عمر رضي الله عنه من القراء، ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما انه قال: كان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولا كانوا أو شبابا، وكلما كانوا من أهل العلم والتقوى كنت أبعد عن الزلل.
وقد توج البخاري أحد أبواب صحيحه بقوله: وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم. وكتمان العيوب عن الصاحب خيانة، والكيد لوقيعة من اصطفاك لبطانته جريمة، وقد استعاذ صلى الله عليه وسلم من ذلك في دعائه فكان يقول:
وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة. وحين سأل ابن مسعود عن أيام الهرج متى تكون؟ أجابه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بأبرز فتن هذه الأيام، فقال: حين لا يأمن الرجل جليسه.







