يسود الساحتين السياسية والاقتصادية الكويتية جدل حول استقالة محافظ بنك الكويت المركزي الشيخ سالم العبد العزيز الصباح، الذي تقدم بها بعد 26 عاما قضاها على رأس السلطة النقدية في الكويت.
وقد أرجع المحافظ استقالته- في بيان صحافي- لأسباب متعلقة بأخطاء السياسة المالية للدولة وتضخم المصروفات العامة في الميزانية مقارنة مع المصروفات الاستثمارية، وهو ما يعيق المركزي في تنفيذ سياسته النقدية، على اعتبار أن يدا واحدة لا تصفق.
لكن الاستقالة جاءت في توقيت تزامن مع مستجدات سياسية عدة رفعت بورصة الحديث عن أسباب غير معلنة للاستقالة.
ويقول محلل الاقتصاد السياسي علي النمش «توجد أسباب غير معلنة، حيث قرأ المحافظ نتيجة إفرازات الانتخابات البرلمانية التي أتت بغالبية معارضة تنوي تشكيل لجنة تقصي حقائق حول فضيحة الإيداعات المليونية للنواب وهو ما دفعه للاستقالة قبل الدخول بالمزاد السياسي حيث كان هناك من يرى تقصيرا في الرقابة على القطاع المصرفي» .
لجنة تقصي حقائق
وكانت عدة كتل نيابية لوحت بان تشكل لجنة تقصي الحقائق للتفتيش في البنك المركزي وفي البنوك لمعرفة حقيقة فضيحة أن الحكومة السابقة حولت أموالا لنواب سابقين، ومعرفة من يقف خلفها، خصوصا أن أربع بنوك كويتية أحالوا نوابا إلى النيابة العامة بسبب ايداعهم أموالا من دون الافصاح عن مصادرها التشغيلية.
«ويضيف النمش ان » الميزانية تضخمت منذ العام 2000 الى 2011، فلماذا يستقيل المحافظ الآن، وبعد ظهور مؤشرات واضحة عن لجنة التقصي؟ ويرى النمش ان المحافظ تهرب من مسؤوليته التاريخية لمواجهة هذا الملف، مؤكدا ضلوع المركزي في الفضيحة، لأن معظم الايداعات النيابية كانت نقدية، ولا شك أنها مرت أمام المحافظ.
رقابة عاجزة
ولعل رقابة بنك الكويت المركزي كانت الملف الأكثر سخونة وجدلا منذ بداية الأزمة المالية في العام 2008، فبعد تعثر شركات استثمار لطالما مدح الشيخ سالم نماذج أعمالها قبل الأزمة، وأعطى الضوء الأخضر للبنوك لتمويلها من دون ضمانات او بضمانات الميزانية الموافق عليها من المركزي، جاءت النتائج كارثية على المجموعات المالية والأفراد والمستمرة تداعياتها حتى اليوم، في أزمة تكاليفها تقدر بمئات المليارات وصعب حصرها، حيث خسرت البورصة الكويتية وحدها 100 مليار دولار.
وظل المحافظ محل اعجاب كثير من الكويتيين لفترات طويلة، نظرا لما يتمتع به من كاريزما وحضور بارزين، لكن الازمة المالية الاخيرة خسرته اسهما كثيرة، حيث انتدبته الدولة لتشكيل فريق للازمة انتهى الى اعداد مشروع قانون للاستقرار المالي، لكنه لم يفعله. فهناك شق في المشروع متعلق بحماية شركات الاستثمار من الدائنين، لكن المحافظ لم يفعله، وحتى ان احدى شركات الاستثمار وهي دار الاستثمار لجأت للقضاء للدخول فيه وكسبت حكما ضد المركزي.
«وهناك شق آخر متعلق بضمان الدولة لـ50% من القروض الجديدة وبقيمة ملياري دينار، وذلك لتحفيز الاقتصاد لمدة عامين، الا ان المحافظ لم يستخدم هذا الشق بنطاق عريض، ويرجح معظم المراقبين ان الخوف من تحمل مسؤولية الائتمان المضمون او تحمل مسؤولية حماية شركات استثمار جعل » المركزي يتراجع عن تطبيق مشروع الاستقرار.
ضغوط سياسية
«وتقول رئيسة شركة بيت الاستثمار العالمي » غلوبل « مها الغنيم، وهي واحدة من اكبر الشركات الاستثمارية المتعثرة في الازمة » إنه كان لدى المحافظ حلول كثيرة لكن الضغوط السياسية منعته من تنفيذها، وان تداعيات الأزمة جاءت على كل العالم، وإن كل البنوك المركزية في العالم أصابها ما أصابه.
«وكان المحافظ وقف مع » غلوبل في ازمتها، وسعى الى انقاذها وبعض الشركات كشركة اعيان للاستثمار والاجارة، وهو ما فتح الانتقادات ضده كونه تعامل بمكيالين في قضية انقاذ شركات الاستثمار التي تضخم عددها بموافقة المركزي 100 شركة في سنوات قليلة قبل ازمة 2008، رغم ان ازمتها واحدة ولديها نموذجا واحدا رغم اختلاف التنفيذ.
ومازالت البنوك الكويتية تئن حتى اليوم بسبب الازمة، وكانت الكويت الوحيدة خليجيا التي شهدت افلاس بنك هو البنك الخليج الذي اُغلق ملف المسؤولين عنه رغم وجود اتهامات لخمسة مسؤولين تعاملوا بالمشتقات في اسواق العملات. وحجزت البنوك مخصصات مقابل القروض المتعثرة بلغ حجمها 9 مليارات دولار تقريبا حتى الربع الثالث من العام 2011، ورغم انها كشفت عن ازمة عميقة في البنوك الا انها جعلتها اكثر متانة وميزانيتها انظف. وكان المحافظ موفقا في سياسته اخذ مخصصات بعضها اجبارية واخرى احترازية للتحوط من أي ازمة مقبلة، واليوم تجني البنوك ثمار هذه السياسة.
المسؤولون كثيرون
ويقول رئيس اتحاد المصارف الكويتية السابق عبد المجيد الشطي ان الازمة المالية كانت مفاجأة لكل العالم، وانه من السهل الانتقاد الان لكن في الفترة السابقة كانت الامور تسير بشكل جيد بشكل لم ينتقدها احد.
واضاف انه رغم وجود بعض الإخفاقات هنا او هناك، لكن لا يجب ان يلام المركزي فقط على سياسته النقدية او الرقابية، فهناك مؤسسات اخرى معنية بالرقابة ومسؤولة عما جرى لشركات الاستثمار على سبيل المثال كالبورصة ووزارة التجارة ومكاتب المحاسبة والتدقيق ومدراء هذه الشركات وملاكها.
«ورغم اختلاف وجهات النظر حول مسؤولية البنك المركزي في الازمة، إلا أن محللين ومراقبين كثر يقولون ان المحافظ مرت عليه ازمات مالية مهمة في الكويت، على رأسها اكبر ازمة مالية المعروفة بـ» أزمة المناخ، وكان يفترض أن يكون هناك انذار مبكر لحدوث ازمة 2008، نظرا للخبرة الطويلة السابقة.
الدينار والفوائد المتراكمة
وهناك بعض القرارات النقدية التي يشهد للمحافظ اتخاذها مثل قرار فك ربط الدولار بالدينار وربطه بسلة عملات قبل الازمة المالية، وهو ما يعني نسبيا قدرته على التحكم بسعر صرف الدينار وابقائه قويا مقابل العملات الاخرى في السلة وايضا امكانية تخفيف عبء التضخم المستورد. لكن في الواقع، وبعد ما يقارب اربع سنوات على هذا القرار، مازالت ارقام التضخم في ارتفاع في السوق الكويتية تماما كما هي في الدول الخليجية التي مازالت تربط عملتها بالدولار.
وكان من الاخطاء في السياسة النقدية حسب المحللين الماليين رفع المركزي الفوائد على القروض 11 مرة قبل الازمة المالية، وهو ما أدى الى تراكم الفوائد على المواطنين المقترضين، وظهور أزمة سياسية ربما هي الاولى في العالم حيث رفع نواب كثيرون شعار اسقاط القروض وفوائدها بسبب سياسة المركزي. وللمفارقة ان هذه المطالب عادت مع وصول البرلمان الجديد، وبحدة اكبر، حيث الاغلبية الاسلامية تنوي الذهاب ابعد من ذلك بتحريم التعامل بالفائدة الربوية.
أين التحفيز
وهناك الملف الاهم، والمفترض انه ينتظر محافظ البنك المركزي الجديد، وهو تحفيز التمويل شبه المعطل منذ بداية الازمة المالية، وهذه احدى المهمات الرئيسية للبنوك المركزية، حيث مازالت مستويات الائتمان صفرية. وبدأ هذا الامر يؤثر على البنوك الكويتية التي لم تنمُ ارباحها السنوية في 2011، وسجلت نموا سلبيا، وهي مهمة يفترض ان يوليها المحافظ الجديد الاولوية قبل ان يلتفت الى السياسة المالية.
وهناك بورصة اسماء مرشحة لمنصب المحافظ، لكن اكثر الاسماء المتوقعة الفوز بالمنصب نائب المحافظ المستقيل محمد الهاشل، وهو شخصية بعيدة عن الظهور الاعلامي، غير ان المحافظ كان يعتمد عليه في امور عدة كما يقول المقربون منه وكان مثله في محافل كثيرة، والبعض ذهب الى انه كان يأخذ بنصيحته ورأيه اولا، وبفضل ذلك وضعه في منصب نائب المحافظ رغم الاعتراض عليه بسبب صغر سنه نسبيا حيث يبلغ عمره 38 عاما.
العربية نت