تتجه السلطات السودانية لإعادة هيكلة المصارف المحلية البالغ عددها 36 مصرفاً تشمل (أربعة مصارف حكومية، وسبعة مصارف تجارية عربية، و25 مصرفاً مشتركاً برأسمال محلي وأجنبي)، لتتمكن من مواكبة الانفتاح العالمي بعد رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
وتعرضت هذه المصارف بسبب العقوبات الأميركية التي فرضت على البلاد 23 عاماً، لهزة كبيرة إذ انقطعت علاقاتها بالمصارف الخارجية، ما أدى إلى اتساع دائرة صيرفة الظل وزيادة كلفة المعاملات المصرفية في البلاد، إضافة إلى فقدان المصارف جزءاً كبيراً من معاملاتها الخارجية وأرباحها وعملائها في الخارج، وتراجع تحويلات المغتربين عبر القطاع المصرفي، ما أثر سلباً على أدائها، وأقعد حركتها الاقتصادية.
وحدد مختصون الحلول الناجعة والعاجلة لإصلاح هذا القطاع في زيادة رساميل البنوك، أو الاندماج، فضلاً عن وجود سياسة مالية ونقدية منضبطة تتزامن مع معالجة المشكلات اليومية فيها، إلى جانب الاستمرار في ضبط سعر الصرف وفق السياسة المتبعة حالياً.
وتعليقاً على هذا التوجه أوضح المحلل المالي السوداني طه حسين، أنه "في آخر تقييم لواقع المصارف السودانية في العام 2018، وجد أن إجمالي حجم القطاع المصرفي لم يتجاوز 11.6 مليار جنيه سوداني، ما يعادل 35 مليون دولار، وهو يدل على أن رأسمال البنوك في البلاد ضعيف جداً، كما أن حقوق الملكية فيها أعلى قيمة من رأسمالها الاسمي، وفي وقت سابق أجرى خبراء فرنسيون دراسة شملت ثمانية بنوك سودانية، أظهرت وجود ضعف في أصولها مقارنة مع تكلفتها التاريخية".
وتابع حسين، "بلا شك، وضع البنوك في السودان سيء للغاية، فأغلبها تتأخر في انعقاد جمعياتها العمومية، ويوجد بينها بنوك لا تتقدم بميزانيتها في نهاية العام، بل تسلمها في السنة الثانية، بالتالي، فإن خطوات إصلاحها وإعادة هيكلتها تتطلب إعادة تقييم لها من نواح عدة، فهي بحاجة إلى الحوكمة والضبط المؤسسي، وأن يقوم بنك السودان المركزي بممارسة دوره الرقابي كاملاً، فضلاً عن تخليه عن ملكية كل البنوك التجارية".
طباعة النقود
وأشار إلى أن معظم البنوك السودانية تواجه مشكلات مستعصية عدة، فحجم السيولة يبلغ داخل الجهاز المصرفي 59 في المئة، مقابل 41 في المئة خارج هذا الجهاز، فضلاً عن ذلك، زيادة حجم طباعة النقود من دون وجود احتياطي، إذ بلغت الطباعة حتى 31 ديسمبر (كانون الأول) 2020 نحو 733 مليار جنيه سوداني (1.9 مليون دولار).
أضاف المحلل المالي، "في ظل هذا الواقع المرير، فإن الحل لمعالجة هذا الخلل يكمن في عمليات الدمج حتى يتلاءم وضع هذه البنوك مع القطاع المصرفي العالمي، فإذا لم يستطع بعضها توفيق أوضاعه بخاصة من ناحية رأسماله المحدد من قبل البنك المركزي، وكذلك من جانب عدم استجابة تلك البنوك للتغيير المطلوب، ولم تتمكن من الاندماج فلا بد من تصفيتها، وتحويل حساباتها بطريقة علمية".
كما لا بد من توضيح سياسة البنوك المتخصصة والالتزام بها، بحيث يعمل بنك المزارع في مجال الزراعة وتغطية الأنشطة والخدمات المصرفية التي يحتاج إليها المستثمر في هذا النشاط، وكذلك الحال بالنسبة إلى بنك الثروة الحيوانية، والبنك التجاري، والبنك العقاري، وغيرها، فمن المهم تحديد الرخصة المصدقة من بنك السودان المركزي لكل مصرف، وفي حال يريد أي بنك ممارسة نشاط آخر غير مجال تخصصه، فإن ذلك يتم من طريق محفظة (سوق بين البنوك)، ويكون البنك الرائد في هذا النشاط هو المعني بهذه العملية بحكم تخصصه.
فساد مقنن
في هذا الوقت، قال المتخصص في قطاع المصارف منصور يحي منصور، "معظم المصارف السودانية عانى خلال فترة نظام الرئيس الأسبق عمر البشير الذي حكم البلاد 30 عاماً، من عمليات الفساد المقنن والمرتب نظير التمكين، بالتعثر والإعفاء وتأخير التسويات الخاصة بالتمويل، فمعروف أن أي عملية تمويل من البنوك، تتم بموجب شروط محددة ولمدة زمنية معينة، لكن كانت هناك تجاوزات تحدث عند منح التمويل، وكذلك تساهل في إجراءات السداد، إذ يحصل التعثر المقصود والمقنن، بمساعدة نافذين داخل هذه البنوك، من دون تطبيق القانون، وهو ما أوصل البنوك لهذه المرحلة من التدني".
أضاف منصور، "غالبية البنوك السودانية غير ملتزمة بالنظام الأساسي، وكذلك غير مستوفية كفاية رأس المال، وظل بنك السودان المركزي يمدد لها فترة السماح لتوفيق أوضاعها، فالانفتاح نحو المنظومة المصرفية العالمية يتطلب أن يكون الموقف المالي للبنوك متماشياً مع المعايير العالمية وملبياً متطلباتها، بخاصة أن المقاطعة الاقتصادية التي تعرض لها السودان العام 1997، أقعدت النظام المصرفي في البلاد، ما يتطلب مجهوداً كبيراً حتى تواكب النهضة التي حدثت في هذا القطاع عالمياً".
ثلاثة خيارات
وواصل المتخصص في قطاع المصارف أن "ليس هناك مفر من إعادة هيكلة البنوك، حتى إذا اضطر بعضها إلى الاندماج حتى تكون منافسة لنظيراتها في الخارج، وستكون إعادة الهيكلة من حيث رأس المال، والأصول، والموظفين، وهناك ثلاثة خيارات تنتظر هذه البنوك، هي إما أن تستوفي شروط رأس المال المحدد وفق مقررات بازل، أو الاندماج، أو أن تصفى اختيارياً، ومن المؤكد أن هذا الإجراء (إعادة الهيكلة) سيخلف ضحايا في الموظفين بسبب فائض العمالة، لكن ليس هناك مخرج أخر غير اتباع هذا النهج".
وبين منصور أن هذا العام (2021) سيكون سنة صفرية، وبمثابة تأسيس للبنوك السودانية، لما أصابها من خلل ودمار ممنهج جعلها تعاني من أبسط مقومات العمل المصرفي مقارنة مع ما حدث من تطورات هائلة في هذا القطاع، لكن في نظري، أن اللوم يقع على الجهة المسؤولة، وهي بنك السودان المركزي، فلم يكن قائماً بدوره في جانب تطبيق القوانين على الرغم من أنها موجودة، وتعد من أفضل التشريعات التي تجعل البنوك في أحسن أحوالها، وكذلك غياب المراجعات، والتساهل مع مجالس الإدارات، وغيرها من الأسباب.
وتوقع المتخصص في القطاع المصرفي، أن يظهر تعافي هذا القطاع تدريجياً، وأن تكون له إسهامات فاعلة في نهضة الاقتصاد الوطني، الذي بدأ حالياً مساره الصحيح، على الرغم من المعاناة الكبيرة التي ألمت بالمواطنين جراء تحرير سعر صرف العملات الأجنبية والعملة المحلية، وهو ما يسمى بتعويم الجنيه السوداني، لكن ليس هناك سبيل غير اتباع السياسات الحالية، التي ستكون لها آثار إيجابية في المستقبل القريب.
تطورات ومتغيرات
من جانبه، يرى الباحث الاقتصادي السوداني هيثم محمد فتحي، أنه لا بد من تناسب حجم النشاط المصرفي التجاري مع حجم الاقتصاد، انطلاقاً من دوره الأساسي في تمويل الحركة الاقتصادية، منوهاً إلى أهمية تعزيز حوكمة واستقلالية البنك المركزي، بما يكفل تفعيل دوره وتحقيق أهدافه، فضلاً عن إبعاده عن المحاصصة السياسية ومنع التدخل الحكومي في آليات عمله.
ولفت إلى أن هناك مجموعة من التطورات والمتغيرات على المستوى العالمي، أدت إلى تغيرات جذرية على المستوى الاقتصادي بصفة عامة وعلى النظام المصرفي والمالي بصفة خاصة، من أهمها انتشار ظاهرة العولمة الاقتصادية والمالية، وثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وانتشار التكتلات الاقتصادية الإقليمية والدولية، والمنظمة العالمية للتجارة والتدخل الكبير لصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي في برامج الإصلاح الاقتصادي بصفة عامة، والنقدي، وإزالة القيود على حركات تدفقات رؤوس الأموال، ما يحتّم ضرورة تطوير وتحسين أداء الجهاز المصرفي، وإعادة قدرته على الوفاء بالتزاماته وتحقيق أرباح ملائمة، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بتحسين كفاءته، وفاعلية عملية الوساطة المالية التي يقوم بها الجهاز المصرفي واستعادة ثقة المتعاملين معه.
ودعا إلى أهمية تصويب الهياكل الفنية والتمويلية والإدارية بما يمكّنها من البقاء والاستمرار بنجاح، لتحقيق عائد مناسب على الأموال المستثمرة، والقضاء على المشكلات التي تعاني منها المصارف السودانية لضمان سير التعامل المحلي والدولي، فضلاً عن زيادة رأس المال، وإعادة النظر بنوع الخدمات المقدمة وتطويرها وتنفيذها بالسرعة الممكنة وتقوية الرقابة الداخلية واستخدام الوسائل الحديثة في تقديم الخدمات المصرفية، لأن تطوير وتحديث وتحرير الجهاز المصرفي يعد من العوامل الضرورية لزيادة القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني.
وأكد فتحي، أنه على الرغم من التطور الذي شهدته البنوك السودانية من حيث زيادة أصولها ورؤوس أموالها، إلا أنها لا تزال تعاني من صغر أحجامها مقارنة مع البنوك العربية والأجنبية، لذلك، الأفضل اندماج هذه البنوك من أجل تقوية مكانتها وتعزيز كفاءتها، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن عملية إصلاح هذا القطاع تتطلب أيضاً الدفع بعجلة الشمول المالي وزيادة حجم صندوق إدارة السيولة وتطوير آلياته إلى جانب إصلاح القوانين والسياسات والنظم الرقابية.
* صحافي سوداني
هل تتجه البنوك السودانية للاندماج بعد إعادة هيكلتها؟
اندبندنت- إسماعيل محمد علي