آراء وأقلام نُشر

مؤشر الرقم (صفر)

عبدالقوي العديني

لا تخلو الاجتماعات الأسبوعية للحكومات من ترديد جملة "أولويات الحكومة في ظل التحديات القائمة"، وخلال السنوات الخمس الماضية، أضيف في الخطابات الإعلامية الحكومية عبارة "خطة المسار السريع"، و"التغيير الجذري"، لكن العمل على أرض الواقع لم يشهد أي فارق، وبقي مؤشر التغيير ثابتًا عند الرقم (صفر).

مؤشر الرقم (صفر)

ولأن صفر: عدد ورقم على حد سواء، يستخدم لتمثيل العدد نفسه، وتوصيف في منتهى الدقة في نظام العد، إذا ما قمنا بجولة ذهنية لمحطات عمل السلطات الحكومية القائمة في اليمن..

الصفر في الوقت ذاته حيادي الجمع بالنسبة إلى التقييم الصحيح لمستوى أداء الحكومات الراهنة في البلدان التي دمرتها الحرب (العراق، سوريا، ليبيا، اليمن)، وقد كان الرقم المناسب والمنطقي الذي حصدته اليمن في مؤشر المنتدى الاقتصادي العالمي بشأن رصد مؤشر التغيير في اليمن للعامين 2022 و2023، وبالتالي استحق الأداء الحكومي الرقم صفر بجدارة!

غير أن هذا الرقم لا يصاحب اسم اليمن في بقية المؤشرات، بل إنه يتحول بسرعة فائقة من اللاشيء، في سلم البنى الجبرية، إلى أعداد كبيرة وفارق شاسع ومخيف يرتب اسم اليمن بخانة ما بعد الـ100 وما بعد المئات، ولكن في مؤشرات شديدة تعكس مؤشرات بلد يوصف بأنه غدا الأكثر فسادًا والأسوأ أداء والأكثر مخاطر، وما يرتبط بها من تهديدات محتملة سواء على المدى القريب (سنتين) أو البعيد (عشر سنوات).

نعم.. الحكومات تعقد اجتماعات شتى، وتتحرك دوليًا، وتعيد توقيع عشرات مذكرات التفاهم والتعاون الثنائي، بل (تبرم) مئات الصفقات، ويؤسس المسؤولون فيها عشرات الشركات، ويسود صراع شرس على اقتناص الفرص، لكنها شركات محدودة وخاصة، وليست مساهمة مجتمعية كما قد يتبادر إلى ذهن القارئ.

اجتماعات الحكومة تناقش كل شيء، وتثير جلبة الإعلام، لكنها تخلو تمامًا من استراتيجيات قطاعية متزامنة، ومن رؤية قادرة على قراءة الحاضر واستشراف المستقبل المنظور بهدف زيادة درجة اليقين لدى المستثمرين الدوليين؛ والتغيير الإيجابي في هذا المؤشر أيضًا (صفر)، وهو العدد الذي تحققه الحكومة وتحصده دون عناء.

سنوات عجاف شابها الجدب وإعادة تكرار المصفوفات العاجلة، والتدخلات السريعة، ويرابط التغيير عند الرقم ذاته، العدد (صفر).

مؤشرات مدركات الفساد، وتحليل الرقم (صفر) تعني الأكثر فسادًا،  ويقيس المؤشر الرشوة وتحويل الأموال العامة إلى غير مقاصدها الأصلية، واستعمال المسؤولين للمنصب العام لتحقيق المكاسب الخاصة دون مواجهة العواقب، وقدرة الحكومات على احتواء الفساد والبيروقراطية المفرطة في القطاع العام.

الحكومات نجحت في تعميم ورعاية الفساد وتشجيعه على مستوى المنظمات، بل بلغ الفساد حد اقتحام معاقل القطاع الخاص، وأصبحت المؤسسات الممثلة لهذا الكيان في حالة سبات إداري وضعف ووهن بدلًا من صناعة الفارق والعمل بما يرتقي إلى مستوى دور وفاعلية وقوة القطاع الخاص الذي مثل أعضاؤه صمام الأمان الفاعل والآمن، والذي حافظ على الحد الأدنى لتأمين الخدمات والمتطلبات الغذائية والمعيشية للشعب.

سنوات تتتالى، والعمل المؤسسي للقطاع العام والخاص مستمر بنفس الأداء، وغير مدرك للتحولات الرقمية الحديثة كخطوة أولى وحتمية لصناعة التغيير.

لقد فشلت الحكومات محليًا، وعلى الصعيد الدولي افتقدت الإرادة لخلق شراكة مع العالم، والإسراع في إعادة إعمار اليمن، ومحليًا فشلت أيضًا في خلق شراكة مع القطاع الخاص.

الحكومة لا تفكر في صياغة وتنفيذ سياسات ولوائح جديدة تسمح بتطوير القطاع الخاص وتعزيزه، وحوكمة الشراكة بينها وبين مكونات المجتمع، بل تنشط بدافع الخصومة مع كل شيء من حولها.

نحن على أعتاب مرحلة جديدة، لكن اليمن لا تمتلك بعد استراتيجية وطنية جامعة وعلمية ومعتمدة لقطاع البناء والتشييد، في الوقت الذي تبذل الكثير من المنظمات والجهات الممولة مساعي لتأهيل قطاع المقاولات ومعالجة المستخلصات الخاصة بالمقاولين وجبر الضرر الذي لحق بالشركات بسبب أضرار الحرب.

القطاع الخاص يتحدث عن ضرورة قيام الحكومة والسلطات المختصة بمراجعة الرؤية الاستراتيجية حتى عام 2025م، بما يتوافق مع متطلبات المرحلة القادمة الخاصة بإعادة إعمار البنية التحتية، والقيام بتعزيز الثقة والشراكة بينه وبين القطاع الخاص، لكنه في المقابل يحبط أبسط المحاولات والأنشطة الداعمة لهذه التوجهات، بتعقيدات بيروقراطية وإجراءات روتينية قاتلة للدور المنوط به.

الهيئات الممثلة للقطاع الخاص تردد مثلها مثل الوزارات أجندات وعناوين فضفاضة عن: "ضرورة المشاركة في بناء ورسم السياسات العامة والخطط ذات الأولوية بجهود إعادة الإعمار، كون القطاع الخاص ومؤسساته المختلفة هي الأكثر دراية باحتياجات التشغيل والإنتاج والنمو الاقتصادي خلال المرحلة المقبلة"، لكنها في الوقت نفسه، لا تصنع التغيير، ومؤشر الإنجاز على الأرض هو نفس العدد الحكومي (صفر).

لعل من الصور المضحكة التي تعكس سخافة الإعلام الحكومي، أن تجد وزيرًا أقل ما يمكن وصفه به أنه الأسوأ فسادًا في تاريخ وزارته، يعقد اجتماعًا جلب إليه كل مسؤولي وزارته لمناقشة مشاركته في فعالية سنوية في دولة مجاورة؛ وكأن الأمر حدث قومي ووطني واستراتجي وفي منتهى الأهمية.. ولا غرابة في ذلك، فهو محصلة من أنشطة حكومات الرقم صفر، ومن عناوين أجندات (أولويات الحكومة) التي لا ندري متى ستشطب هذا المصطلح، أو تغير هذا التعبير بمفردة جديدة، ربما يساعدها ذلك على تحقيق (عُشر) الرقم واحد، بضم العين، وتغيير المعادلة في مؤشرات ضمان الاستثمار والمنتديات الاقتصادية المتخصصة برصد مناخات الاستثمار وأداء الحكومات، وتعلن نتائجها السنوية كتقارير نهاية كل عام.

ختامًا: نعدكم باسم وحدة البحوث والدراسات، أن نفرد للعمل الحكومي في أعمالنا القادمة مساحة أوسع لتقييم مدركات الفساد والمخاطر، وأن يكون ذلك من (أولوياتنا) كما يحلو للحكومة أن تقول، وجرت عليها العادة في خطابها الإعلامي.

أأنتم خير أم قوم تبع؟!

 

 

افتتاحية مجلة الاستثمار: أكتوبر 2023


 

مواضيع ذات صلة :