اقتصاد يمني نُشر

إرتفاع أسعار السلع أصبح سمة الواقع الإقتصادي العالمي الجديد

ارتفاع أسعار السلع سمة جديدة ملازمة للمشهد الاقتصادي العالمي الجديد. وهو يعكس التحول العالمي في القوة الاقتصادية من الغرب الى الشرق. وقد حان الوقت لأن نعتاد على هذا الوضع الجديد.

الارتفاعات الأخيرة في الأسعار كانت غير عادية الى درجة أن حذر روبرت زوليك رئيس البنك الدولي من «الرياح السامة التي تتشكل من الألم الحقيقي». وكان يقصد الفقراء في معظم حديثه. لكن مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية بمقدار الضعف منذ عام 2000 وتضاعف أسعار النفط والمعادن ثلاث أو أربع مرات، فإن لا أحد محصن من تلك المعاناة.

هذه ليست حكاية تتعلق بالسياسة النقدية المتراخية في الولايات المتحدة الأميركية، أو بروز شركات سلع كبيرة مثل غلينكور. بل تتعلق بما نشهده الآن من تزايد الآلام الناجمة عن نجاح البلدان الناشئة. اذ ولت تلك الأيام التي كان ينظر فيها الى النمو السريع في الدول الآسيوية على أنه مؤشر على الطلب القوي من الولايات المتحدة أو أوروبا. فالمستهلكون الصينيون يساهمون الآن تقريباً بقدر مساهمة المستهلكين الأميركيين في نمو الانفاق الاستهلاك العالمي، في حين ان الاستثمار الصيني يتفوق على الاستثمار الأميركي منذ عام 2001. ان فك الارتباط بين الاقتصادات العالمية، الذي كان وهماً فيما مضى، هو الآن الواقع الاقتصادي الجديد.

لكن رغم كل التقدم الذي حققته الصين والهند، الا انهما لا تزالان حتى الآن من الدول الفقيرة. وهذا أمر مهم، ذلك ان النمو السريع عند مستويات الدخل الدنيا يعتبر مرادفا للزيادات الكبيرة في الطلب على المواد الخام. ففي البلدان الناشئة، نجد ان البنية التحتية القائمة أصلاً في البلدان المتقدمة، يجري بناؤها الآن فقط، في حين ان تحول الناس الى نظام غذائي قوامه اللحم ومنتجات الألبان يؤدي الى زيادة الطلب على المنتجات الزراعية.

ومن الطبيعي الا يقترن بالضرورة ارتفاع الطلب مع ارتفاع الأسعار. فعلى المدى الطويل، على الأقل، ينبغي أن يؤدي ارتفاع الأسعار الى زيادة في العرض، وان يتم استخدام الموارد النادرة بطريقة أكثر كفاءة. لكن لا يمكن إيجاد وخلق العرض في الموارد بمجرد كبسة زر، لا سيما حين تستغل الأراضي الزراعية التي كانت يوما تستخدم لإنتاج المحاصيل والمواد الغذائية في إنتاج الوقود الحيوي.

كما ان هناك قيودا أخرى. ولنأخذ مثلا حركة المسافرين جوا، إذ انخفضت تكلفة كل مسافر بالأميال بنسبة %75 منذ خمسينات القرن الماضي، الا ان أعداد المسافرين تضاعفت سبع مرات، كما زادت المسافات التي تقطعها الطائرات بصورة دراماتيكية، وهنا، كما هو الحال في مجالات اخرى، لم تكن مكاسب الفعالية والكفاءة كافية لتخفيف الضغط على استخدام الموارد النادرة.

والأسوأ من ذلك ان هذه المشكلة، وفي ظل ظروف السوق الطبيعية، لا تزداد الا سوءا، فمكاسب الانتاج السريعة في الصين والهند تدفع باتجاه زيادة المداخيل المحلية، مما يزيد من الطلب الاستهلاكي، كما ان البنود المتعلقة بالتجارة لكل من الهند والصين تشهد تحسنا: وفي المستقبل اما ان ترتفع قيمة الرينمينبي والروبية او ترتفع الاسعار والاجور المحلية في الصين والهند نسبة الى نظيرتها في الخارج.

وبغض النظر عن اي من الاحتمالين قد يسود، فان الصين والهند سيكون بمقدورهما شراء المزيد من السلع، مما سيضغط على الأسعار باتجاه الصعود اكثر. لكن يظل هذا جزءا من نمط اكثر رحابة واتساعا، وهو ان جميع الدول الصناعية بحاجة الى القدرة على الاستفادة من المواد الخام التي تعزز وتدعم النمو. وتاريخيا، كانت القوى الاوروبية تحل هذه المعضلة من خلال الاستعمار والاستعباد. ومع انتفاء هذا الحل هذه الايام واستحالته، فان الصين والهند بحاجة الى البحث عن خيارات اخرى.

وهذا هو السبب وراء انشغال الصين في التفاوض لابرام صفقات ثنائية مع البلدان الغنية بالسلع، خصوصا ايران وعدد من الدول في جنوب الصحراء الافريقية، وغالبا ما تكون بنود هذه الصفقات ضبابية، مما يعكس الضبابية وعدم الوضوح بين المصالح التجارية ومصالح الدول في تلك الصفقات. كما انها غالبا ما تكون على مسافة قريبة جدا من الحمائية، وفي الوقت الراهن، تستخدم دول ناشئة اخرى اعانات سخية وضوابط اسعار غاية في التشدد لحماية مواطنيها الاكثر تأثرا بارتفاع الاسعار، ومع بلوغ معدلات التضخم مستويات هي الأعلى منذ ما يزيد على العامين، فقد لجأت الصين مؤخرا، على سبيل المثال، الى وضع ضوابط على البنود الاستهلاكية. كما قد تجد نفسها قريبا مضطرة الى السماح بزيادة قيمة عملتها كذلك.

ومع ذلك، فان من شأن تلك الخطوات ان تفرض تكاليف اكبر على دول اخرى، التكاليف التي تزداد وضوحا في اماكن اخرى من العالم، فمع صعود الشرق، يجد الغرب انه يتحمل جزءا من الفاتورة، كون ارتفاع اسعار السلع يهدد على نحو خطير الانتعاش الاقتصادي الوليد والهش. ويستنزف التضخم على جانبي الاطلسي الدخول الحقيقي كما يهدد بالقاء اقتصادات تلك الدول في هوة الركود مرة أخرى.

بعد حدوث اكبر انهيار اقتصادي منذ الكساد العظيم، تفيدنا النظرية الاقتصادية بأنه لا ينبغي على أسعار السلع العالمية ان تصل الى هذا الحد من الارتفاع. لكنها كذلك، ويحتاج الغرب الى ان يستيقظ بسرعة على هذا الواقع الاقتصادي الجديد. فأسعار السلع الآن مرتفعة بصورة مستدامة. ونحن الآن ندخل مرحلة تقشف ليس بسبب ديون الماضي فحسب، بل ايضا بسبب التكاليف المرتفعة للزمن الحاضر.

وحتى نتجنب الوقوع في هذا الفخ، لا بد لنمو الاقتصاد في الدول الغربية في المستقبل ان يعتمد على بناء روابط تجارية جديدة مع البلدان الناشئة، وبينما تقترب الاقتصادات الناشئة من الهيمنة على الاقتصاد العالمي، فهي تحتاج الى منتجات وخدمات جديدة تتناسب وتطلعات مواطنيها الذين وضعوا قدماً واحدة فقط على سلم التنمية، فاذا ما تمكنت الدول المتقدمة من تقديم تلك المنتجات والخدمات، بدلا من تقديم المنتجات المعقدة والمكلفة التي يجرى عادة استهلاكها، يمكن لنا ايضا ان نستفيد من نجاح الدول الناشئة.

ليست هذه بلعبة يربح فيها طرف على حساب خسارة طرف آخر، فالاقتصاد العالمي رغم كل شيء، يتوسع بصورة سليمة في الوقت الراهن، لكنها لعبة يفرض فيها نجاح الدول الناشئة عبئا غير متوقع على التقدم الغربي، والاخفاق في ادراك هذا الواقع الجديد قد يهوي بالعالم الى الحمائية والفوضى المالية والصراعات التي شوهت النصف الاول من القرن العشرين. وحتى نتجنب هذا المصير فاننا جميعا بحاجة الى التوصل الى حل لنعرف كيف يمكن ان نعيش في حدود امكاناتنا الجديدة والمتواضعة على نحو متزايد.


 

مواضيع ذات صلة :