رفعت الأقلام وجفت الصحف .. هذة الرساله التي تخبرنا بها الأزمة الإقتصادية يومياً فلم يمرعلينا يوم إلا ويتردد على
مسامعنا إفلاس البنوك الأمريكية ؛ وإفلاس الشركات العربية وتكبيلها بالديون التي فاقت نطحات السحاب التي إرتفعت بها ودمرت إقتصادها بلمح البصر ؛ فللأزمة الإقتصادية أسباب متعدة كالرأسمالية وسوء توزيع الدخل ، وغياب العدالة الإجتماعية ، والأرباح دون عمل وتراجع العدالة الإجتماعية هذا ملخص تحقيقنا عن القيم الإجتماعية التي ساعدت على عصف الإقتصاد الغربي قبل العربي ؛ والحصيلة الأخيرة إفلاس 22 بنكاً بأمريكا منذ بداية 2010 ؛ كما ذكرت وكالات الأنباء عن إنهيار 140 بنكاً أمريكياً خلال 2009 م وهذا يعد أعلى رقم منذ عام 1992 م..
الزميلة إلهام محمد علي محمد من مصر ، إستعرضت وأعدت موضوعاً قيماً وغنياً بالمعلومات التي تدور حول القيم العربية والغربية المسببة للأزمة الإقتصادية العالمية التي يبدو أنها إجتهدت بشكل كبير حتى تقدم مثل هكذا موضوعا هدية إلى القراء ..
تشكّل منظومة القيم الإقتصادية الموجهة للسلوك الاقتصادي لأي أمة، عاملاً مهماً في تحديد مسار اقتصاد هذه الأمة وقدرته على تحقيق التطور والتقدم، أو على مواجهة الأزمات التي يمكن أن يتعرض لها سواء كانت ناجمة عن عوامل داخلية، أو كانت بسبب تأثيرات اقتصادية خارجية.
من المؤكد أن منظومة القيم الاقتصادية السائدة في البلدان العربية والتي تشكّل ملامح الثقافة الاقتصادية العربية، قد أثرت في تحديد نصيب البلدان العربية من الأزمة المالية والاقتصادية الهائلة التي ضربت الولايات المتحدة الأمريكية، وانتقلت منها إلى كل الاقتصادات المندمجة في الاقتصاد العالمي، وضمنها الاقتصادات العربية عبر آليات التجارة السلعية والخدمية والاستثمارات المباشرة وغير المباشرة وتدفقات الأموال. كما أثرت هذه الثقافة الاقتصادية أيضاً في آليات تفاعل الشعوب والحكومات العربية مع تلك الأزمة وكل تداعياتها.
وإن كان من الضروري الإشارة إلى أن المنظومة القيمية الاقتصادية السائدة أمريكياً وعالمياً وعلاقتها بتفجير الأزمة والتفاعل معها بعد ذلك، قد وُجدت مباشرة في البلدان العربية، أو أثرت فيها بقوة، باعتبار أن هذه المنظومة الأمريكية والعالمية، تشكّل الوسط التاريخي الذي تتحرك المجتمعات العربية في إطاره وتتفاعل معه بمنطق المتلقي والمقلد كلما كانت ضعيفة، وبمنطق المتفاعل والمؤثر كلما كانت قوية.
فهناك مجموعة من القيم الاقتصادية التي تتبوأ مكانة عليا في رأسمالية ما قبل الأزمة العالمية في البلدان الرأسمالية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة، تلك القيم التي قامت الدول الكبرى بمساعدة صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية بنشرها على نطاق واسع في العالم سواء بالتراضي مع حكومات الدول النامية والأقل نمواً، أو بآليات الضغط المالي عليها؛ فهي كالتالي..
إدارة بوش حرية تقود للفساد
تأتي قيمة الحرية الإقتصادية المنفلتة من أي ضوابط أو قيود أو رقابة فعّالة من الدولة في مقدمة المنظومة القيمية التي شكّلت الثقافة الإقتصادية في الغرب والعالم في العقدين الأخيرين.
وكان المبرر لهذا النمط من الحرية المنفلتة، هو أن قوى السوق قادرة على تصحيح نفسها ومعالجة أية تجاوزات أو أزمات، وأن تدخل الدولة ورقابتها، يفسد الآليات التلقائية لإصلاح الرأسمالية لنفسها.
لكن الذي حدث كنتيجة لسيادة هذه القيمة والثقافة المرتبطة بها، هو موجة عاتية من الفساد ضربت الشركات الأمريكية في عامي 2001 / 2002 وخلّفت وراءها انهياراً كاملاً لشركة إنرو Enron النفطية التي كانت تحتل المرتبة السادسة في قائمة أكبر الشركات الأمريكية، والمرتبة 16 بين أكبر شركات العالم، وخلّفت وراءها أيضاً انهياراً كاملاً لشركة وورلد كوم، وخلفت خسائر نهائية عبارة عن حقوق معدومة قدرها 460 مليار دولار في عامي 2001 ، 2002، فضلاً عن الإضطراب الهائل الذي شهدته البورصة الأمريكية آنذاك.
وكان السبب الرئيسي لإنهيار الشركتين المشار إليهما هو فساد المدراء التنفيذيين الذين من المفترض أنهم يديرون الشركتين لمصلحة حملة الأسهم، وتقوم بمراقبتهم شركات محاسبة لمصلحة حملة الأسهم، لكن هؤلاء المدراء فسدوا وتواطأت معهم شركات المحاسبة في غياب أية رقابة حقيقية من الدولة، وكانت النتيجة انهيارات مدوية.
لكن إدارة بوش الابن "الذكية"، إستمرت على المنوال نفسه، حتى حدث الإنهيار الثاني والأكبر حجماً في منتصف عام 2007 في شركات الرهن العقاري والشركات العقارية نفسها.
ولم يكن هذان الانهياران كافيان لتنبيه بوش الابن وإدارته "الذكية"، فانتظرا الانهيار الأشد هولاً في المؤسسات المالية والعقارية والذي بدأ بانهيار عملاقتي الرهن العقاري.
"فاني ماي" Fannie Mae وفريدي ماك Freddie Mac اللتين كانتا تضمنان قروضاً عقارية قيمتها 5.2 تريليون دولار، في يوليو 2008, والذي انتهى حتى الآن بسقوط 40 مؤسسة مالية عملاقة ومتوسطة في الولايات المتحدة، وإفلاس عدد كبير من الشركات الصغيرة والمتوسطة والعملاقة, بما فيها رموز صناعة السيارات الأمريكية "كرايزلر" و"جنرال موتورز".
أين الرقابة والشفافية ..؟
كما أن غياب الرقابة الحقيقية، ساعد الشركات على تزييف أعمالها حتى تقلل ما تدفعه للضرائب بالرغم من إنخفاض معدلاتها على الطبقة العليا، وساعدها أيضاً على تبرير أي قرارات بشأن الأجور عندما يتعلق الأمر بزيادات محدودة أو حتى جمود هذه الرواتب، وخلق حالة من عدم الشفافية في عالم الأعمال عموماً.
وقد فاقم من ضعف الشفافية وانعدامها في بعض الأحيان، توسع ظاهرة سرية الحسابات المصرفية التي تعد غطاء نموذجياً للأموال الفاسدة التي تم تكوينها من الفساد والاقتصاد الأسود غير المشروع عموماً.
كما أن تزايد الملاذات الضريبية الآمنة التي تصل الضرائب فيها إلى صفر أو مستويات متدنية، قد ساعد أيضاً على تهرّب الرأسمالية الكبيرة في الكثير من البلدان من دفع الضرائب من خلال تأسيس أعمالها في هذه الملاذات الضريبية الآمنة، حتى لو كانت تعمل بالأساس في اقتصادات أخرى خارج تلك الملاذات الضريبية الآمنة، وأدى هذا الأمر إلى تزايد العجز في الموازنة العامة للدولة في الكثير من البلدان .
وتعد سويسرا ودبي وهونج كونج وجزر كايمان من الملاذات الضريبية الشهيرة في العالم والمنطقة العربية.
وفي البلدان العربية، سادت هذه الثقافة الإقتصادية إما باختيار النظم الحاكمة في بعض البلدان، أو تحت ضغوط المؤسسات المالية الدولية والدول الدائنة في بلدان أخرى.
وكانت النتيجة هي إنتشار الفساد على نطاق واسع على تخوم العلاقة بين القطاع العام والجهاز الحكومي والهيئات الاقتصادية من جهة، وبين القطاع الخاص المحلي والأجنبي من جهة أخرى، فضلاً عن الحرية المطلقة للرأسمالية المحلية والأجنبية التي تنشط في البلدان العربية، في تقسيم القيمة المضافة المتحققة في أي عملية إنتاجية لمصلحتها على حساب العاملين لديها، بصورة تنطوي على توحش حقيقي في الاستحواذ على القيمة المضافة أو فائض القيمة، مما ساعد على إنتشار الفقر حتى بين العاملين في ظل عدم عدالة نظم الأجور في الكثير من البلدان العربية، مقابل تزايد ثراء حفنة من الرأسماليين والمغامرين والفاسدين بصورة أسطورية.
ثقافة الربح من دون عمل..!!
تعد ثقافة "الربح من دون عمل"، هي العنصر الثاني من عناصر الثقافة الإقتصادية العالمية والعربية التي ساهمت في انفجار الأزمة المالية الاقتصادية العالمية والعربية، وفي تحديد نصيب البلدان المختلفة منها.
وهذه الثقافة الرديئة هي أم الأنشطة الطفيلية مثل المضاربة على العملات والأسهم والمعادن النفيسة وغير النفيسة والسلع الغذائية، وهي أيضا المصدر لكل برامج المسابقات والاتصالات التلفونية التي تلعب على أحلام الناس في الخروج من الفقر أو ضيق الحال من خلال كسب المال بهذه الطريقة وبكميات ضخمة، وهي أيضا التي ولدت ظاهرة الأسواق الآجلة في المواد الأولية مثل النفط والغاز والمعدن والسلع الزراعية، والتي انتشرت لتشمل كل ما هو قابل للاتجار به، بما في ذلك القروض بعد ذلك لتشكل سوق المشتقات التي توسعت وتضخمت بصورة سرطانية، ليصل حجم المشتقات عند انفجار الأزمة المالية والاقتصادية العالمية الراهنة إلى أكثر من 600 تريليون دولار (التريليون ألف مليار)، أي أكثر من عشرة أضعاف حجم الناتج العالمي مقاساً بالدولار وفقاً لتعادل القوى الشرائية بين الدولار والعملات الأخرى.
وهذه الثقافة تتوسع على حساب ثقافة الربح من خلال العلم والعمل اللذين غيرا الدنيا ومصائر الأفراد والأمم ورسما دائماً صورة المستقبل والتطور الاقتصادي - الاجتماعي لأي أمة حسب موقع قيمتي العلم والعمل من منظومة القيم الأساسية لها.
وقد شهد العالم منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين توسعاً مطرداً لثقافة الربح من دون عمل منذ تحول أسواق العملات بعد فك الإرتباط بين الدولار والذهب، وبعد تعويم العملات الأوربية وكل العملات الحرّة، إلى أسواق للمضاربة على العملات وليس للحصول على هذه العملات بغرض تسوية التعاملات الاقتصادية والالتزامات المالية بين الدول.
وللعلم فإن قيمة التعاملات في أسواق العملات خلال ما يقل عن شهر توازي قيمة الناتج العالمي خلال عام في الوقت الراهن، مما يدلل على ضخامة حجم هذه الأسواق وسخونة الأموال التي تتحرك فيها.
وترتبط ثقافة الربح من دون عمل، بثقافة إقتصادية رديئة أخرى، هي ثقافة الخبطة المقبلة من عالم الاقتصاد الأسود، والتي انتشرت في الاقتصاد العادي بعد تلقي الاقتصاد الرسمي المشروع، موجات ممن كونوا أموالهم من الأنشطة الطفيلية والفساد، والأنشطة غير المشروعة مثل الإتجار في المخدرات أو السلاح أو الآثار، أو البغاء وإدارة صالات القمار، بعد تبييض أموالهم، حيث جاء هؤلاء القادمون من الاقتصاد الأسود بثقافة تجارية تقوم على احتكار الفرد أو القلة، وهي الأنماط السائدة في تلك الأسواق غير المشروعة، وتقوم أيضا على معدلات ربح بالغة الارتفاع كآلية أساسية للإثراء السريع ولتعويض أية خسائر قد تحدث من الملاحقة القانونية للأنشطة غير المشروعة والقائمين بها.
هوس الإستحواذ لدى الرأسمالية
تعد ثقافة الإستحواذ والسيطرة لدى الرأسمالية الكبيرة في الولايات المتحدة، المصدر الأساسي لظاهرة الرواتب الخيالية للمدراء التنفيذيين للشركات الأمريكية الكبرى الرابحة والخاسرة معاً، لدرجة أن رئيس مجلس إدارة بنك ليمان براذرز Leman Bros المنهار في سبتمبر 2008، حصل على 468 مليون دولار كمكافآت على الرغم من أن أداءه الفاسد وغير الكفء كان يستحق العقاب وليس نهب أموال حملة الأسهم في صورة مكافآت تمثل قمة الملهاة في نهب الرأسمالية البيروقراطية الأمريكية لصغار ومتوسطي المستثمرين من حملة الأسهم.
كما أن هوس الإستحواذ شكل مصدراً رئيسياً لحروب السيطرة على النفط وللميل العدواني الخارجي لإدارة بوش الابن التي وصلت في عدوانيتها تجاه الآخر إلى حالة من الفاشيستية، كانت نتيجتها الاقتصادية إغراق الموازنة العامة للدولة الأمريكية في عجز أسطوري نتيجة التكاليف الباهظة لتمويل المغامرات الخارجية، دون التمكن من الحصول على عائد كبير كمقابل لهذه المغامرات، يعوض تكاليفها، وذلك بسبب أعمال المقاومة في البلدان التي غزتها القوات الأمريكية، وأيضاً بسبب رفض ترقب وترصد الدول الكبرى لما ستفعله الولايات المتحدة في مستعمراتها.
وكان بوش الابن قد تسلم الحكم في الولايات المتحدة وهي لديها فائض قدره 254.8 مليار دولار عام 2000، وتراجع هذا الفائض إلى 91 مليار دولار عام 2001، ثم بدأت الموازنة تعاني عجزاً كبيراً وصل إلى 455 مليار دولار في العام المالي الأمريكي المنتهي في سبتمبر 2008، قبل أن تؤدي التكاليف الهائلة لمواجهة الأزمة المالية والاقتصادية الأمريكية ومحاولة إنقاذ رأسماليتها المتداعية من خلال أموال دافعي الضرائب ومجمل الإيرادات العامة، إلى وصول عجز الموازنة العامة للدولة لمستويات قياسية تقدر بنحو 1700 مليار دولار في العام المالي الأمريكي الحالي الذي ينتهي في سبتمبر 2009.
وفي المنطقة العربية، تعد ثقافة الإستحواذ عاملاً رئيسياً في سيادة نماذج السيطرة على السلطة والثروة وتزايد سيطرة الرأسمالية على الحكم بصورة مباشرة في الكثير من البلدان العربية، بما يترتب على هذا النمط من تحطيم القواعد الذهبية للنظام الرأسمالي نفسه، مثل قاعدة العلم المتزامن بظروف السوق لدى كل المعنيين به، حيث يعلم الرأسماليون الموجودون في الحكم بالتغير في ظروف السوق قبل غيرهم، بل إنهم يصنعون هذا التغير في الاتجاه الذي يحقق مصالحهم الخاصة، بكل ما ينتج عن ذلك من اختلالات اقتصادية - اجتماعية - سياسية، نتيجة إعطاء الأولوية لمصالح حفنة من الرأسماليين الموجودين في الحكم، على حساب مصالح الاقتصاد عموماً، أو حتى مصالح الطبقة الرأسمالية بصورة جماعية، أو النظام السياسي نفسه.
غياب العدالة الإجتماعية
أدى تراجع ثقافة وقيمة العدالة الإجتماعية والنظر إليها على أنها من مخلفات عهود مضت ترتبط بالنظم الإشتراكية أو بدولة الرفاهية الاجتماعية أو بالدول المستقلة التي توافرت لها إرادة تطوير مجتمعاتها وبناء تكاملها الوطني بصورة سريعة وفعالة، أدى هذا التراجع إلى تزايد الفوارق بين الطبقات خاصة بعد تعديل الروافع الأساسية لتوزيع الدخل وإعادة توزيعه باتجاه المزيد من السوء، حيث قامت إدارة بوش الابن بتخفيض الضرائب على الشريحة العليا من 40% على كل من يزيد دخله على 297 ألف دولار في نهاية عهد كلينتون، إلى 35% على كل من يزيد دخله على 325 ألف دولار.
وإذا كان توزيع الدخل في أي بلد يتحدد من خلال نظم الأجور والتشغيل والضرائب والتحويلات والدعم السلعي ودعم الخدمات العامة، فإن هذا التوزيع تدهور كثيراً بسبب تبني الإدارة الأمريكية لسياسات يمينية متطرفة محابية للطبقة العليا أساساً.
وهذا الغياب لقيمة العدل الإجتماعي له تأثير سلبي كبير في الطلب الفعال المحفز للإستثمارات والنمو في الولايات المتحدة والدول الصناعية المتقدمة عمومًا وباقي دول العالم بدرجة أقل.
ويأتي هذا التأثير من حقيقة أنه كلما زادت حصة الشرائح الدنيا من الدخل، فإن الطلب الفعال على السلع والخدمات يتزايد بشكل سريع، لأن هذه الفئة ليس لديها ترف الإدخار وتحول دخلها إلى طلب فعال على السلع والخدمات، بما يحفز المستثمرين على إنشاء مشروعات جديدة لمواجهة هذا الطلب الفعال، وهذه المشروعات تقوم بتشغيل عاملين جدد لهم طلب فعال أيضاً على السلع والخدمات بصورة تحفز المستثمرين على بناء مشروعات جديدة في سلسلة متراتبة ولا تنتهي، نطلق عليها مضاعف الإستثمار الذي يحرك النمو الاقتصادي المتواصل.
ومن المؤكد أن غياب قيمة العدالة في توزيع الدخل وتأثيرها السلبي على الطلب الفعال، يعد عاملاً أساسياً في تفجير أزمات الركود الإقتصادي في النظام الرأسمالي غير العادل بصورة دورية.
ثقافة القطيع وأزمات العقار والبورصة
أدت سيادة ثقافة القطيع في التحرك الإقتصادي العادي تجاه مشروعات بعينها، والتحرك في بورصات الأسهم وأسواق العملات، إلى المساهمة في حدوث طوفان من الإستثمارات في بعض القطاعات مثل القطاع العقاري في الولايات المتحدة دون أن يكون هناك طلب فعال على تلك الإستثمارات العقارية، مما إضطر الشركات ومؤسسات الرهن العقاري إلى قبول بيع المنازل لمشترين لا يتمتعون بجدارة ائتمانية، لأنه ببساطة لم تكن هناك طريقة أخرى لتسويق تلك العقارات، وعندما عجز هؤلاء المقترضون عن سداد أقساط ديونهم العقارية، بدأت شركات الرهن العقاري المقرضة لهم في التداعي والانهيار وبدأت الشركات العقارية في الانحدار بعد تجمد رأسمالها في استثمارات بائرة أو تم استردادها من مقترضين فشلوا في سداد ثمنها، وبدأت المؤسسات المالية التي تداولت مشتقات مشكوكاً في تحصيل قيمتها في التداعي والانهيار هي الأخرى.
كما أدت ثقافة القطيع إلى حدوث انهيارات كبرى في أسعار الأسهم من دون أن تكون هناك مبررات حقيقية لتلك الإنهيارات، وإنما قادت إليها حالة من الإنهيار المعنوي والتوقعات السيئة والتزاحم على بيع الأسهم بصورة جماعية فور ورود أنباء سيئة وبدء بعض المستثمرين في بيع أسهمهم.
والغريب أن هذه الموجات من البيع تتم إستباقا لتردي الأحوال، مما أدى إلى تردي الأحوال فعليا!!
وإضافة إلى هذه الأنماط من القيم والعوامل الثقافية التي ساهمت في إنتاج الأزمة المالية والإقتصادية عالمياً، فإن بعض دول المنطقة العربية، لديها نمط خاص يتمثل في ثقافة الوجاهة الإقليمية ومنح الميزات للرأسمال الأجنبي للحديث الفارغ والسفيه عن جذب إستثمارات أجنبية أكثر من بلدان الجوار الجغرافي، على الرغم من أنه لا فائدة ترجى للبلد من هذه الإستثمارات الأجنبية التي تستهلك البنية الأساسية وتستخدم عمالة أجنبية وتستقدم تقنيات إدارية وإنتاجية لا تفيد بها إلا نفسها والعمالة الأجنبية التي تعمل لديها، ولا يستفيد منها إلا حفنة ممن لديهم عقارات وأراض يقومون بتأجيرها بأسعار خيالية للشركات الأجنبية وللعاملين الأجانب، مع تكريس نمط المستثمر المحلي كسمسار وليس كمنتج.
إنكار الحكومات العربية لحقائق الأزمة
عندما بدأت الأزمة المالية والإقتصادية العالمية، تسابقت الحكومات العربية في الإعلان عن أنها بمنأى عن الأزمة وتأثيراتها، وأن أوضاعها الإقتصادية قوية، وتجلى نوع من الزهو الفارغ المناقض لحقائق الواقع التي كانت تشير بوضوح إلى أن تلك الأزمة قد إنتشرت كالنار في الهشيم في غالبية إقتصادات العالم، وأنها ستنتقل لكل بلدان العالم المندمجة في الإقتصاد العالمي عبر آليات التجارة السلعية والخدمية والإستثمارات.
ويكفي أن تقديرات منظمة التجارة العالمية تشير إلى أن التجارة العالمية سوف تتراجع في العام الحالي 2010م بنسبة 14% وهو أعمق ركود تشهده منذ الحرب العالمية الثانية، وتصل التقديرات لدى صندوق النقد الدولي إلى أن التراجع سيبلغ 26.6% في العام الحالي.
وبالمقابل، فإنه عندما بدأ الحديث الرسمي عن انتقال تأثيرات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية إلى البلدان العربية متأخراً عدة أشهر، فإن الحكومات بدأت في استخدامها كشماعة تعلق عليها كل أخطائها وإخفاقاتها، وتراجعت نزعة الزهو الفارغة، بينما سادت بين المواطنين في الكثير من البلدان العربية حالة من الخوف من الآتي في ظل التوقعات القاتمة بشأن مستقبل الاقتصاد العالمي.
وتزايد الخوف على الإزدهار المالي في البلدان العربية المصدرة للنفط بالذات، نتيجة تأسيس هذا الازدهار على ريع ثروة ناضبة متذبذبة السعر بشكل حاد، وليس من خلال العلم والعمل في اقتصادات صناعية وزراعية وخدمية متنوعة تنهض على أكتاف أبنائها.
وبدأت الدول ورجال الأعمال في تأجيل كم هائل من المشروعات العقارية الفاخرة لدرجة السفه والتي قاربت قيمتها نحو 500 مليار دولار. وتوقف طوفان المشروعات المرتبطة بالترف المبالغ فيه، والذي يمكن أن يعتبره البعض نوعا من نمط استهلاكي قائم على التفاخر الاجتماعي وليس على الحاجة.
ويمكن القول إجمالاً إن طبيعة الثقافة الإقتصادية والقيم السائدة، قد أثّرت في نصيب البلدان العربية من الأزمة المالية والإقتصادية العالمية، وعلى طريقة التفاعل معها، شأنها في ذلك شأن غالبية بلدان العالم المندمجة في الاقتصاد العالمي والتي تعرضت لأعاصير الأزمة الاقتصادية العالمية.
لكن هذه الأزمة العاتية بكل تأثيراتها، من المفترض أن تترك بصمة قوية على منظومة القيم الإقتصادية العربية، وهو أمر من الصعب تحديده إلا بعد إنجلاء الأزمة تماماً، حيث سيتضح عندها طبيعة التغيرات القيمية ومدى ثباتها أو زوالها، بإعتبارها أمراً مؤقتاً مرتبطاً بلحظة الأزمة، وليست تغييراً حقيقياً يبقى مع الزمن ويوجه السلوك الإقتصادي العربي بصورة أكثر رشادة في المستقبل.