آراء وأقلام نُشر

الـــرأســـمــالــيــة مــا بــعــد الأزمـــة

Image

بقلم أمارتيا سن*

توالت الأزمات في 2008 بدءاً بأزمة الغذاء العالمية، والتي هددت المستهلكين الفقراء بإفريقيا، وارتفاع أسعار النفط، وصولاً إلى انكماش

الاقتصاد العالمي. وأغلب الظن أن يتفاقم الانكماش الاقتصادي في 2009، ويتوقع عدد كبير من الاقتصاديين أن يشهد الاقتصاد العالمي أزمة كبيرة تشبه أزمة الثلاثينات.
ويدور الكلام على طبيعة الرأسمالية، والحاجة إلى تغييرها وتعديلها.
ولقيت فكرة انتهاج رأسمالية جديدة مختلفة عن الرأسمالية القديمة رواجاً في ندوة عنوانها "عالم جديد، رأسمالية جديدة"، عقدت في باريس برعاية الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، ورئيس الوزراء البريطاني السابق، طوني بلير.
ودعا بلير وساركوزي إلى تغيير النظام الاقتصادي، واقترحت المستشارة الألمانية، انغيلا مركيل، أن يكون نموذج الـ "اقتصاد الاشتراكي" الألماني مرجع الرأسمالية الجديدة، على رغم أن أداء الاقتصاد الألماني لم يكن أفضل من أداء اقتصادات السوق.
 ولكن هل ثمة حاجة فعلية إلى "رأسمالية جديدة" تحل محل نظام اقتصادي ليّن يستند إلى مبادئ اجتماعية تراعي الأخلاق؟
وهل يفضي إصلاح النظام الرأسمالي الراهن إلى بروز نظام رأسمالي جديد؟
يفترض أن الاحتكام إلى السوق في المعاملات الاقتصادية، وحوافز الربح ومكافأة المستثمرين، من أبرز سمات النظام الرأسمالي.
ولكن معظم الأنظمة الاقتصادية في أوروبا وأميركا لا تتسم بهذه السمات فحسب.
ويلجأ عدد كبير من دول العالم النافذة إلى معاملات، ومنها تعويضات البطالة، ورواتب التقاعد، وتقديمات الضمان الاجتماعي، والمساعدات المدرسية والجامعية والصحية، لا تتداول في السوق، ولا تراعي مبادئ السوق، في توزيع العوائد.
ولا يقتصر اقتصاد السوق على رفع نسب الربح، بل هو يتعداه إلى توفير الخدمات العامة، وضمان الأمن العام.
وفي أعماله الرائدة، وخصوصاً في "ثروة الأمم"، بيّن آدم سميث ارتباط رفع القيود عن التجارة بالنمو الاقتصادي والتخصص في الإنتاج وتقسيم العمل.
ونبّه منتقدو الرأسمالية، وأعلاهم صيتاً كارل ماركس، وآباؤها، على حد سواء، إلى ضرورة عدم الاحتكام إلى السوق وحده.
ولم يختزل منظرو الرأسمالية الأوائل اقتصاد السوق بالاحتكام إلى اليد الخفية، وإلى الربحية.
فشرط دوران الاقتصاد هو الثقة بين أصحاب العمل والمصارف والمؤسسات المالية، من جهة، وبين المقرضين والمقترضين، من جهة أخرى.
ودعا سميث إلى تصدي الدولة لدور مهم في اقتصاد السوق من طريق توفير خدمات عامة في مجال التعليم ومكافحة الفقر، وردم هوة التفاوت الاجتماعي.
فالسوق لن توفر فرص عمل من تلقاء نفسها، في ظروف اقتصادية صعبة.
وعليه، حريّ بالدولة التدخل تدخلاً لا يطيح اقتصاد السوق. ولم تبصر الرأسمالية النور قبل إرساء أنظمة قانونية وممارسات اقتصادية تحمي حقوق الملكية، وتحرك عجلة اقتصاد السوق.
فالتبادل التجاري لم يزدهر إلا بعد ثبات أعرافه.
واحتكمت الربحية في الرأسمالية إلى قيم ناظمة ومؤسسات.
ولكن التزام المبادئ الأخلاقية والقانونية الوثيقة الصلة بعالم معاملات السوق تقهقر في الأعوام الأخيرة، على وقع نشوء أسواق ثانوية توسلت المشتقات المالية والأدوات المالية.
وقوضت المشتقات والأدوات المالية الثانوية معياراً جوهرياً هو محاسبة المخلين بأعراف السوق ومبادئه. فبوسع الجهة المقرضة أن تمنح قرضاً عقارياً عالي المخاطر، وأن تبيع أصول القرض العقاري هذا إلى طرف ثالث.
وفي الأعوام الأخيرة، قُوض دور رقابة الحكومة الأميركية على المعاملات المالية والقروض.
وتخلى المصرف الفيدرالي الأميركي عن دوره، وأفلت "يد السوق الخفية" من عقال الإشراف والرقابة.
ففي وقت برزت الحاجة إلى الرقابة، تراجعت وضعف قيدها. فوقعت الكارثة في العام الماضي، وأسهمت إسهاما عظيماً في نشوء الأزمة المالية العالمية.
والحق أن الأزمة الاقتصادية الراهنة تعود، إلى حد ما، إلى المغالاة في تقويم "حكمة" السوق.
ويفاقم الأزمة قلقُ المستثمرين، والافتقار إلى الثقة في الأسواق المالية.
والدليل على ذلك ضعف استجابة الأسواق خطة التحفيز المالي الأميركية.
ويواجه، اليوم، العالم مشكلات لم يغفلها سميث في القرن الثامن عشر.
 ويكثر، الاستشهاد بأعمال سميث وجون ماينرد كينز. ولا شك في أن أوجه الشبه كبيرة بين الأزمة الحالية وبين الأزمة في المفهوم الكينزي. فتقلص مداخيل مجموعة من الناس، يسهم في تراجع معدلات استهلاكهم، ما يقلص عائدات مجموعة أخرى من الناس. ولكن ثمة حاجة ماسة إلى ألا يقتصر على أعمال كينز، والرجوع إلى أعمال غريمه وزميله في جامعة كمبردج، الاقتصادي سيسيل بيغو.
وعلى خلاف كينز، أولى بيغو السيكولوجيا الاقتصادية وأثرها في دورات السوق وانكماشه مكانة عالية، ووضع مقاييس تحدد مستوى التفاوت الاقتصادي.
ودعا بيغو إلى التزام قياس مستوى التفاوت الاقتصادي مؤشراً بارزاً في رسم السياسات الاقتصادية، وفي تقويم الأداء الاقتصادي.
فعلى رغم ضخ سيولة كبيرة في الاقتصادات الأوروبية والأميركية، لم تحرك المصارف والمؤسسات المالية أسواق القروض، وأبقت على جمودها.
وفي هذا الضوء، يجب أن يحتسب أثر سياسات الإنقاذ المالية النفسي في المستهلكين، وفي قطاع الأعمال.
 وأهمل كينز في أعماله قطاع الخدمات الاجتماعية أكثر مما أهملها بيسمارك المتسلط. فالإحجام عن الرعاية الاجتماعية، وعن دعم الدولة قطاعي الخدمات الصحية والتعليمية، يفاقم آثار الأزمة الاقتصادية السلبية.
ولا شك في أن يد السوق الخفية أخفقت في توفير الرعاية الصحية في الولايات المتحدة والصين. فانخفض متوسط العمر المتوقع والمرجو بالصين، اثر إلغاء التغطية الصحية العامة الشاملة في 1979.
ولعل الأزمة المالية والاقتصادية هي فرصة لتذليل مشكلات شابت رأسمالية السوق على الطراز الأميركي، ولمعالجة قضايا أهملت في الأعوام الأخيرة، على غرار الحفاظ على البيئة ودور الدولة الاجتماعي.




* مارتيا سن- أستاذ في جامعة هارفرد، حاز جائزة نوبل للاقتصاد في 1998، عن "نيويورك ريفيو أوف بوكس" الأميركية، 26/3/2009.


عن صحيفة الحياة.


 

مواضيع ذات صلة :