آراء وأقلام نُشر

توطيـن الصنـاعة فـي اليمـن.. الواقـــع وآفـــاق التطــويـــر

*محمـــــد علـــــي ثامـــــر
تسعى دول العالم إلى توطين مختلف الصناعات سواءً الاستخراجية أو التحويلية أو غيرها في اقتصاداتها، وذلك عبر إطلاق العديد من المبادرات الطموحة والكفؤة، التي تُحفِّز وتُوطِّن هذه الصناعات،

Previous Next

وتسهم إسهاماً فاعلاً في إنشاء وتأسيس شـركاتٍ ناشئةٍ ذات أفكارٍ طموحة، وتعمل على تطوير وبناء القدرات البشرية في هذا القطاع، والارتقاء بجودة مشاريعه ومنتوجاته، وتعظيم العوائد الاقتصادية المُحققة منه؛ وكل ذلك لأن القطاع الصناعي يُعدُّ أحد أهم القطاعات الإنتاجية الأكثر استدامةً إلى جانب قطاعي الزراعة والسياحة، وغيرهما؛ وهذا الأمر يسمى بـ"عملية التنويع الاقتصادي"، القائم على دعم وتشجيع القطاعات غير المعتمدة على المنتجات النفطية أو الغازية أو المعدنية، ومنها بالطبع القطاع الصناعي، والذي يُمثل قيمةً مُضافةً ونسبةً مئوية من الناتج المحلي الإجمالي لأي بلدٍ من البلدان، ولأهمية هذا التنويع، فقد أطلقت القمة العالمية للحكومات مؤشراً دولياً خاصاً بعملية التنويع الاقتصادي في العالم، يوضح مرتبة كل دولةٍ على حدها، وما هي مزايا وفرص كل القطاعات الإنتاجية وعلى رأسها القطاع الصناعي؛ وللأسف الشديد فبلادنا (اليمن) لا تزال بعيدةً كل البعد عن الدخول في هذا المؤشر؛ نظراً لمحدودية اقتصادها الحالي والمرتكز بشكلٍ رئيسـي على قطاعي النفط والغاز، والزراعة إلى حدٍّ ما.
وكدراسة حالةٍ على القطاع الصناعي اليمني والذي تكاد تكون مؤشراته بسيطةٌ إلى حدٍّ ما، حيث شهدت السنوات الأخيرة الماضية زيادةٍ بسيطة وتغيـراتٍ محدودة في مساهمة المنشآت الصناعية في تكوين الناتج الصناعي لصالح المنشآت الكبيرة على حساب المنشآت المتوسطة والصغيرة، حيث زادت الأهمية النسبية لمساهمة المنشآت الكبيرة في تكوين ناتج القطاع الصناعي من (62.2%) عام 2014م، إلى (65.3%) في عام 2019م، فيما تراجعت مساهمة المنشآت المتوسطة من (7.2%) إلى (6.4%) خلال نفس الفترة، وكذلك الأمر بالنسبة للمنشآت الصغيرة والتي تراجعت مساهمتها خلال الفترة ذاتها من (30.6%) إلى (28.4%)، ويعود السبب في تحقيق الزيادة في مساهمة المنشآت الكبيرة مقارنةً بالمنشآت الصغيرة والمتوسطة إلى قُدرتها الكبيرة على الاستمرار في العمل ومجابهة التحديات في آنٍ واحد؛ أضف إلى ذلك امتلاكها قدراتٍ ماليةٍ وفنيةٍ وإداريةٍ عالية تُمكنها من التكيف مع الأوضاع المستجدة ومجاراة التطورات الحاصلة في بيئة الأعمال مقارنةً بالمنشآت الصغيرة والمتوسطة والتي تتسم بمحدودية رأس المال ومحدودية القدرات الإدارية والفنية.
وبالمجمل فعند مقارنة أداء القطاع الصناعي اليمني مع مثيلاته من القطاعات الصناعية في مختلف دول العالم، يكاد يكون القطاع الصناعي اليمني في المراتب الدُّنيا بحسب العديد من المؤشرات العالمية، كمؤشر الأداء الصناعي العالمي، والصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية، والذي يرصد الأداء الصناعي لأكثر من (150) دولةً؛ ففي تقريره لعام 2023م يُظهر أن اليمن حازت خلال عامي (2022 – 2023م) على المرتبة الأخيرة عالمياً، والمرتبة الـ(17) عربياً، وبقيمة مؤشر أداء هي (0.00001)، كما يذهب التقرير الاقتصادي العربي المُوحَّد لعام 2024م إلى أن الأداء الصناعي في اليمن لم يشهد تطوراً يُذكر على مستوى توطين الصناعات، واستخدام التكنولوجيا المتطورة على الرغم مما تتمتع به من قدراتٍ إنتاجيةٍ عالية، وموارد طبيعية هامة؛ الأمر الذي جعل نسبة مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي لبلادنا لا تتجاوز الـ(11.1%) فقط في عام 2023م؛ ولعل السبب في ذلك يعود إلى عدة عوامل، أبرزها هو عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني في البلد، وانعدام أو تلاشـي حجم التمويلات المالية لتطوير هذا القطاع، وسنورد مثالاً على ذلك، ويتمثل في ضعف حجم تمويل البنوك والمصارف اليمنية للقطاع الصناعي؛ ففي عام 2020م بلغت نسبة تمويل هذا القطاع من القطاع المصرفي حوالي (4%) فقط، مقارنةً بحوالي (23%) على المستوى العربي، وحوالي (39%) في الأردن، و(20%) في كلٍّ من لبنان وفلسطين.
ومن هذا المنطلق، تأتي الأهمية الكبرى للقطاع الصناعي اليمني، ولأهمية عملية توطين الصناعات فيه، بمختلف أنواعها وأصنافها، وبمختلف أحجامها (صناعاتٍ صغيرة – متوسطة – كبيرة)؛ نظراً لكون هذا القطاع الواعد يعد أحد أهم المرتكزات الأساسية للنمو الاقتصادي في اليمن، ويحتل أهميةً خاصة في أولويات التنمية الاقتصادية والاجتماعية كونه من أهم القطاعات الإنتاجية القادرة على خلق فرص العمل، والحدِّ من البطالة والفقر، كما يُمثل ركيزةً أساسية لتوسيع القاعدة الإنتاجية، وزيادة الدخل في الاقتصاد الوطني، فضلاً عن دوره الهام والمحوري في زيادة الصادرات، وتحسين الموقف الخارجي للاقتصاد اليمني، إلى جانب دوره الكبير في توليد فرصٍ استثمارية جديدة تساهم في تكامل القطاعات الاقتصادية المختلفة، وتعمل على توزيع الأنشطة الاستثمارية في مختلف المناطق والمدن والمحافظات؛ وبالتالي قيام تنميةٍ اقتصاديةٍ متوازنة، ونهضةٍ وطنيةٍ حقيقية، لا سيما ونحن هذه الأيام نعيش عصر ما أطلق عليه بـ(الثورة الصناعية الرابعة)، والتي اتَّسمت بظهور تقنياتٍ مبتكرة كالروبوتات والذكاء الاصطناعي، وتقنية النانو، والحوسبة الكمية، والتقنية الحيوية، وإنترنت الأشياء، والطباعة الثلاثة الأبعاد، والمركبات ذاتية القيادة.. وغيرها.
ويتضح لنا الحاجة الماسة لبلادنا في توطين الصناعات المختلفة فيه؛ فبدلاً من الاعتماد الكلي على الاستيراد لكل شـيء، وأي شـيء، فإن هذا التوجه سيعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي في المقام الأول، وفي المقام الثاني سيخلق فرص عملٍ جديدة ربما لآلاف أو مئات الآلاف من الشباب، وسيُعزِّز القدرات التنافسية للاقتصاد اليمني، ولمنتوجاته الصناعية أمام قريناتها من منتوجات الدول الأخرى؛ ليصبح التوطين بمثابة حلاً استراتيجياً للصعوبات والمعوقات التي تقف كحجر عثرة أمام اقتصادنا بشكلٍ عام، وسيعمل على جعله مستقراً بصورةٍ مستمرة، بل ويحقق نسب نموٍّ كبيرة كل عام؛ وبمعنى أكثر دقة إن التوطين الصناعي سيعمل على تحويل بلادنا من دولةٍ مستوردة إلى دولةٍ منتجة؛ مما يجعلها قادرةً على تلبية احتياجات ومتطلبات السوق المحلية، ومن ثم تحقيق القدرة على المنافسة في الأسواق الإقليمية والعربية والدولية؛ الأمر الذي سيتجاوز به هذا الاقتصاد لمعظم معضلاته والمتمثلة في ارتفاع معدلات البطالة، والفقر، وغيره، هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى سيسهم مساهمةً مباشرة في خفض تلك المعدلات، ومن ثم تحقيق الزيادة في الدخل الأسري، وتحسين مستويات المعيشة، وبالتالي تحقيق استقرارٍ اجتماعيٍّ واقتصاديٍّ أكبر لليمن بكله.
كما أن من آفاق التوطين والتطوير لهذا القطاع؛ العمل على تحقيق مستوياتٍ من الابتكار والإبداع في معظم تقنيات تشغيل المصانع وتطوير المنتجات ورفع معدلات الإبداع والابتكار فيها؛ فالصناعة والابتكار يُشكِّلان جزءاً لا يتجزأ من الهدف التاسع من أهداف التنمية المُستدامة التي وضعتها هيئة الأمم المتحدة، وتحديداً خطتها للتنمية المُستدامة حتى عام 2030م؛ من خلال هذا الأمر فإن الحاجة الماسة إلى توطين الصناعات في بلادنا سيعمل أيضاً على تعزيز قدراته البشرية، وإتاحة الفرصة القيِّمة لنقل التكنولوجيا الحديثة والمتطورة والمعرفة الصناعية إليه؛ مما يُسرع من وتيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بل ويضع البلد بكله على مسارٍ متطورٍ من الإبداع والابتكار في مختلف المجالات وعلى رأسها المجال الصناعي، لنتجاوز الموقف القائم حالياً حيث أنن بلادنا وفي السنوات الماضية لم تدخل ضمن قائمة مؤشر الابتكار العالمي الذي تصدره المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو – wipo) بصورةٍ سنوية، وآخرها التقرير العالمي لمؤشر الابتكار العالمي 2024م.
وفي الأخير.. إن وجود قطاعاً صناعياً يمنياً قوياً ومتيناً سيُسهم لا محالة في استقرار اقتصادنا الوطنـي من خلال تنويع مصادر دخله وتقليل اعتماده على قطاعاتٍ بعينها كالنفط والزراعة، كما أن تسجيل معدلات نموٍّ فيه سيخلق حراكاً اقتصادياً واسعاً يُشمل قطاعاتٍ أخرى كالخدمات والنقل والتجارة والزراعة والسياحة وغيرها؛ مما يُعزز من دورة الاقتصاد الكلية في بلادنا؛ وهذا هو ما يحتاجه ويسعى إليه بشكلٍ عام من وراء التطوير في مختلف القطاعات الاقتصادية ومنها بالطبع القطاع الصناعي؛ ليصبح التوطين فيه ليس مجرد خيارٍ اقتصادي فحسب، بل ضرورةً حتمية لتحقيق التعافي والازدهار على المدى الطويل؛ وهذا الأمر يتطلب رؤيةٍ استراتيجيةٍ واضحة، وتضافرٍ كبير لجهود جميع الشركاء فيه (الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني)؛ فمن خلال الاستثمار في الصناعة المحلية، يُمكن لليمن أن يُعيد بناء اقتصاده، ويُوفر حياةً كريمة لمواطنيه، ويُمهد الطريق لمستقبلٍ أكثر استقراراً وازدهاراً.

كاتب وباحث اقتصــــادي*
E-mail: ezzthamer81@gmail.com

 


 

مواضيع ذات صلة :