اليكم دراسة هامة للغاية لشخصية اقتصادية تمتلك قدرة وخبرة فائقة في الكتابة والتحليل
انها مدة شيقة لخبير اقتصادي له العدديد من الكتابات والدراسات نشرت في مجلة الاستثمار ومجلة النفط وعدد من الصحف والدوريات المحلية المواقع الالكترونية . وهو من الخبراء والكوادر الحكومية التي خددمة اليمن في السنوات الماضية .
في هذه المادة قراة عميقة تستحق شغفكم وقراتكم لما فيها من تحليل واستنتاج لمجريات الصراع ونتائجه التي وزعها الكاتب بين ماهو محتمل وممكن ؛ وما يوشك ان يكون حتمي ومؤكد ..
انه الدكتور خالد محسن شرف الدين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هنا نحن نودع عاماً ونصف العام من العدوان والحصار، لم يحقق المعتدي، باستثناء جرائم القتل والتدمير والإبادة، أياً من أهدافه المعلنة، فلا (شرعية) عادت ولا استسلم (الانقلابيون) ولا سلّم (المتمردون) أسلحتهم، ولا انصاعوا للقرارات الجائرة وانسحبوا (صاغرين) إلى قراهم وجبالهم و(كهوفهم).
ولم يغير من الأمر ما حدث في بعض المناطق الجنوبية والتي تزعم أبواق العدوان وعملائه “تحريريها” ووقعت برمتها تحت سيطرتهم، فالجميع يعلم الآن لماذا وكيف قاما لجيش واللجان بالانسحاب من تلك المناطق، كما أن (السيطرة) المزعومة سرعان ما تبخرت على أرض الواقع وتحولت إلى كابوس مفزع نشاهد فيه مختلف المجموعات المسلحة سواءً المرتزقة أو العميلة أو الغازية أو الإرهابية وهي تنتشر وتتقاتل فيما بينها بغية السيطرة وبسط النفوذ هنا وهناك.
حيرة مسببة
وقد استوقف هذا العجز عن الحسم العديد من المراقبين والمحليين بل وأثار حيرتهم وذلك لأكثر من سبب، فمن جهة ما يتمتع به المعتدي من أسباب وعوامل قوة ونفوذ ساحقة واستثنائية لا تخفى على أحد، إذ علاوة على ترسانة الأسلحة الهائلة المتراكمة لديه منذ أزمان طويلة، قدمت له الولايات المتحدة وحلفاؤها من دول الأطلسي كل أنواع الدعم المادي والسياسي وأمنت له الغطاء الدولي في محافل أتخاذ القرار كافة، وعلى رأسها مجلس الأمن، هذا بالإضافة إلى استخدامه أموال الريع النفطي في بناء تحالفات عربية وإقليمية، وفي إيجاد آلة إعلامية شرسة مهيمنة وفي شراء ذمم ومواقف العديد من الشبكات الإعلامية الأخرى سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي.
كل ذلك وفر للمعتدي شروطاً أكثر من مريحة (لم تحلم بها حتى إسرائيل) مكنته من الإمعان في عدوانه وأطلقت يده إلى أقصى مداها لارتكاب أبشع جرائم الدمار والقتل والترويع والتشريد وسط صمت دولي مخزٍ وجبان بدأ أقرب إلى التواطؤ منه إلى المباركة والتأييد، صمت يعري زيف الأسس والمبادئ الأخلاقية التي تقوم عليها ما تسمى بالقوانين والمواثيق الدولية، كما يكشف بشكل قاطع، نفاق الشعارات التي تصم بها آذاننا على الدوام منظمات وجمعيات وهيئات الدفاع عن حقوق الإنسان بمختلف تفريعاته الفولكلورية من المرأة إلى كبار السن وحتى الطفل الرضيع، ناهيك عن حقوق الحيوان والنبات والحشرات .. الخ.
من جهة أخرى التواضع الشديد في عدة وعتاد وعديد قوات الدفاع من جيش وأمن ولجان نتيجة أولاً لمؤامرات ما سمي بالهيكلة منذ 2011م وما لحقها من تدمير أهوج جراء القصف الجوي المكثف لكل ما قيل أنها معسكرات أو مخازن أسلحة.
عدم تحقيق العدوان لأهدافه المعلنة بالرغم من كل ذلك يعتبر بلا جدال شكلاً من أشكال التخبط إن لم نقل الفشل والخيبة.
ليس هذا فقط، إذ ما لبثت تلك الحيرة أن تحولت إلى استغراب مشوب بالدهشة وبشيء غير جافٍ من الإعجاب، وذلك عندما قلبت قوات الجيش واللجان كل الموازين وعبرت خط الدفاع الصامد لتمسك بزمام المبادرة وتنتقل إلى خطط وتكتيكات هجومية ألحقت بالمعتدي وبجحافل مرتزقته وعملائه أفدح الخسائر، بل وحولت عمقه الحيوي إلى جحيم صاعق، وكل ذلك بالقليل المتوافر ومن دون غطاء جوي أو حتى دفاعات جوية فعالة.
صمود معجز
لاشك أن الفضل في ذلك يعود في الدرجة الأولى إلى صمود الشعب اليمني المستمد من إيمانه بالله وبعدالة قضيته ومن تلاحمه مع أبطال الجيش واللجان الشعبية في تصديهم الأسطوري للعدوان وأدواته، وما يزيد من عظمة هذا الصمود البطولي النادر تعدد صوره وأشكاله النادرة.
فمن المؤكد أنهم قد استضعفوا اليمن واتخذوا قرارهم بشن العدوان على أساس قدرتهم على سحق هذا البلد الآمن وتركيعه في غضون أيام أو أسابيع على أكثر تقدير، ومن هنا وأتت آل سعود الـ(جرأة) وانتفخت أوداجهم وقرروا للمرة الأولى التدخل المباشر، ومن هنا أيضا جاء اسم العاصفة وكل تلك الغطرسة وكل ذلك الصلف.
وهكذا عندما تكسرت نصالهم على جدار التصدي الصلب، أخذتهم العزة بالإثم وراحوا يحرقوا ويدمرون بجنون أخرق كل ما هو على الأرض من عمار ونبات، وكل متحرك أو ساكن من إنسان وحيوان وكان أملهم أو وأمنياتهم أن يشاهدوا أسراباً من ملايين اليمنيين وهم يتدافعون إلى خارج حدود البلاد، وفوق ظهورهم بعضاً مما أمكن إنقاذه من متاع، وجوههم شاحبة، وأعينهم تدور في ذعر واستجداء بحثاً عن ملجأ آمن أو وطن بديل.
لم يدر في خلد هؤلاء الجبناء أنهم يواجهون شعباً أصيلاً متميزاً، جبل على العزة والكرامة، شعباً لا يبرح أرضه عند الشدائد والمحن، قد ينزح، عند الضرورة القصوى، من ركن فيها إلى آخر، ولكنه يلتصق دوماً بهذه الأرض، بجبالها ووديانها، بخيرها وشرها، يعيش فيها كريماً أو يموت دفاعاً عنها شهيداً، بعد أن يكون قد جعلها، في كل مكان قبوراً لكل من اعتدا عليها وتجبر.
لذلك كانت صدمتهم مروعة، يروا بدلاً عن مشاهد الرحيل واللجوء، مشاهد عودة العالقين في الخارج قسراً وإصرارهم على الالتحاق بالوطن مهما كانت قسوة الظروف التي فرضها العدوان وحصاره الجائر.
دوافع حاقدة
كل هذا صحيح، وعلينا ألا ننساه إطلاقاً، ولكن أليس علينا في نفس الوقت التساؤل عن الأهداف الحقيقة لهذه الهجمة الدموية وهذا القدر من الحقد الدفين؟ز
لقد أدرك اليمنيون، بوعيهم الفطري السليم، أن معرفة حقيقة الأهداف تكمن أولاً في معرفة حقيقة الدوافع، وأن أهداف المعتدي، بالتالي، لا تمت بصلة إلى ما أعلن عنه وإنما هي في حقيقتها رغبته الكاسحة المتجبرة في تلقين من اسماهم بـ(المتمردين) و(الانقلابيين) درساً وقاسياً مروعاً يعودون، على إثره راكعين .. صاغرين، إلى بيت الطاعة وإلى الدوران، من جديد في فلك هيمنة آل سعود وأسيادهم والرضوخ الكامل لمشيئتهم.
هذا بالإضافة إلى أن للعدوان وجوه وأبعاد أخرى عديدة لا تقل خطورة، وأن لم تكن مرئية أو ملموسة بنفس القدر، وحتى نرى الصورة بكامل وجوهها وملامحها، علينا بالضرورة تغيير زوايا الرؤية وتوسيع دائرتها ومن ثم إعادة الإجابة ربما عن نفس الأسئلة المطروحة ولكن هذه المرة من منظور أكثر شمولاً. منظور يعمل ، أساسا على استظهار طبيعة الترابطات الخفية بين أجزاء الصور والتي تبدو، غالبا، متناثرة أو مستقلة بذاتها إلى هذا الحد أو ذاك.
هذا الأمر سيمكننا، أولا، من فهم وإدراك الجذور والترابطات الحقيقية لهذا التكالب الكوني المسعور على بلادنا وبكل هذه الضراوة والشراسة. كما يمكنه أن يسهم من جهة أخرى في تحديد استراتيجياتنا وفقا لمراحل المواجهة المختلفة ويعيننا أخيرا على بلورة خياراتنا سواء الراهنة منها أو المستقبلية.
التفكير وفقا لهذا النهج يقتضي:
– أولا: التوقف عند عدد من المقدمات والمحطات التاريخية التي لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بأوضاع وظواهر وأحداث اليوم.
– ثانيا: إلقاء مزيد من الضوء على دلالات بعض المفاهيم النظرية التي أسيء تفسيرها وتوظيفها من أغلب “القوى السياسية” في خطاباتها “التسطيحية” التي شاعت وراجت في الآونة الأخيرة.
إسقاط الهيمنة
وفي هذا الصدد لا باس من البدء بالإشارة إلى الطبيعة المتميزة والفريدة للنفوذ السعودي في اليمن والذي يخطى من يحاول تسطيحه واختزاله، أو تنميطه وحشره في بعض قوالب العلاقات الجاهزة المعروفة والمتداولة.
لقد بينا في دراسة أخرى أن هذا النفوذ، على عكس ما هو شائع، هو حصيلة لعمليات معقدة ومركبة شديدة الترابط، حيث نراه على صلة وثيقة، من جهة بمعطيات الصراع الدولي منذ حقبة الحرب الباردة وتداعياتها في المحيط الإقليمي والعربي، ومن جهة ثانية، بالهزات التي تعرضت لها البنى والمرتكزات الاقتصادية- الاجتماعية- السياسية لليمن، وكادت أن تصيبها بالتفكك والتصدع المجتمعي لولا صلابة جذورها الضاربة في أعماق الزمان وعلى امتداد الأرض طولا وعرضا .
وقد تناولنا هذه الحقبة المفصلية من تاريخ اليمن الحديث في الدراسة المعمقة المشار إليها سابقا، حيث حددنا فيها نقطة بداية “الهزات” بصدمة الاحداث التي اندلعت أوائل ستينيات القرن الماضي (يوم 26 سبتمبر 1962م تحديدا)، وأوضحنا انه على الرغم من نبل وطهارة وعنفوان الغايات، إلا أن المصريين وقادتهم، بل السواد الأعظم من اليمنيين، بما فيهم “الضباط الأحرار”، لم يكن لديهم عشية “الثورة المباركة” أدنى تصور عن طبيعة تكوينات وبنى المجتمع اليمني وواقعه المعقد، ومن باب أولى عما يمكن أن تودي إليه تداعياتها من انكشاف مفاجئ للمجتمع والدولة، بعد عزلة طويلة، أمام القوى والتيارات الخارجية وما ينتج عن ذلك من مؤثرات وجودية خطيرة على مختلف الأصعدة الاقتصادية – الاجتماعية الثقافية، ثم ما أعقب تلك الصدمة من حروب أهلية ومن توالي وانتشار المزيد من التشوهات البنيوية في سائر المنظومات والمؤسسات الحكومية والمجتمعية عموما.
نفوذ تفكيكي
وما نود تأكيده هنا باختصار، هو أن النفوذ السعودي في اليمن ما كان له أن يكون بهذه القوة لولا ما ذكرناه من مظاهر التدهور والتفكك والتشوه الذي حل بالمجتمع اليمني وطال آليات عمل منظوماته الوظيفية ومرتكزاته بل وحتى هياكله التحتية والفوقية. ولولا، أيضا خلو الساحة الثقافية- الدينية- العقائدية تماما من أي شكل من أشكال المقاومة أو حتى الاعتراض لأسباب عديدة ليس هذا مجال شرحها.
من الطبيعي، في ضوء هذه المعطيات، أن يقترن استفحال بعض مظاهر التفكك المجتمعي عضويا بتصاعد سطوة ذلك النفوذ. فبعد أن تمكن من اختراق البنى الأساسية للمجتمع مستغلا ثغرات الحرب الأهلية في ستينيات القرن الماضي، أخذ في الانتشار معتمدا، في البداية، على شراء ذمم وولاءات العديد من الشخصيات والرموز في الأوساط القبلية والعسكرية والنخبوية الحزبية والثقافية.
ثم انتقل، في مرحلة تالية، إلى تكوين مراكز قوى موالية مكنته من إحكام قبضته وتعميق تأثيره، حتى أصبح، في ذروته، حاكما متحكما ليس في رأس ورموز ومفاصل السلطة السياسية والعسكرية والقبلية فحسب، وإنما، أيضا، في المنظومة الدينية والثقافية والفكرية للمجتمع بأسره وذلك عبر السيطرة على دور العبادة وعلى المناهج والمراكز الدراسية الدينية والجمعيات الخيرية.. الخ. محققا غزوا منهجيا منظما وكاسحا لمذهبه الوهابي الغريب الدخيل الوافد من وراء الحدود، وما يتناسل عنه من أفكار السلفية الجهادية والتكفيرية. وهنا، قد لا نجد مبالغة في القول إن اليمن، في تلك الحقبة من التاريخ، أوشك فعلا لا قولا، أن يصبح “سعوديا- وهابيا أكثر من السعودية نفسها”.
هذه المعطيات أدت، أيضا، إلى نشوء وبروز نتوءات وتشوهات في المنظومة الفكرية- الثقافية- العقائدية، عطلت، مع غيرها من العوامل الاقتصادية- الاجتماعية، العديد من إمكانيات نمو وارتقاء الانتماءات والولاءات الوطنية الجامعة، وعززت ، بدلا عن ذلك،بل واستحدثت أحيانا، ولاءات وعصبيات مناطقية- مذهبية ضيقة دخلية على المجتمع استجلبت فيما استجلبت بذور التنافر والكراهية والفتنة ليس فقط بين العناصر المكونة للشعب بل وبين الناس عموما وحتى بين أهل البيت الواحد.
أحداث متوقعة
وأهمية هذه الحقيقة الأخيرة تكمن في أنها تعيننا على فهم أعمق لما نشاهده اليوم من ظواهر وسلوكيات مجتمعية تبدو للوهلة الأولى مفاجئة وصادمة وغير قابلة للعقلنة,ولعل أول هذه الظواهر، انجرار إعداد غير يسيرة للوقوف، عمليا في صف العدوان. وهي الظاهرة التي لم نجد ما نطلقه عليها سوى كونها “ارتزاق”و “عمالة”.
وهذا التوصيف،وأن كان صحيحا من حيث المبدأ، إلا أنه لا يكفي لتفسير جذور وأسباب تكون هذه الظاهرة الشاذة، والعوامل التي فاقمتها، من جهة، ودفعتها، من جهة أخرى، في هذا الاتجاه دون غيره، ثم أوصلتها في النهاية، عمليا إلى الدرك الأسفل من مستنقعات الخيانة.
من هنا، ينبغي فهم ما نعنيه بقولنا لم نفاجأ كثيرا بشن العدوان أصلا، ولا بما فيه من جنون ولا مشروعية ولا معقولية, تماما كما لم نستغرب، منذ البداية هذا الإمعان الهستيري للعدو في التدمير والقتل والإبادة والذي لا يمكن لأي إنسان سوى أن يجد له مبررا أو تفسيرا, السبب في ذلك ، كما اشرنا، هو معرفتنا بحجم وبأبعاد الخسارة التي مني بها أولئك الحكام وأسيادهم من جراء ما فقدوه من أدوات وشبكات، عكفوا بنائها ونشرها خلال أكثر من خمسة عقود من الزمن واستيعابهم.
واستيعابهم، أخيراً، لصعوبة، أو بالأحرى لاستحالة، تعويض بأية صورة كانت ، سواء في المستقبل المنظور أو حتى في المستقبل البعيد.
يضاف إلى ذلك حالة الخوف والتوجس، بل والذعر الحقيقي، التي انتابتهم رأوا وأحسوا وأدركوا أن هذه المستجدات العاصفة والمتسارعة في اليمن تحمل أيضاً في أعماقها بذوراً لنمو تيار جديد وأصيل يرفض البقاء في دائرة التخلف والفقر والتبعية ويسعى لأن ينعم الشعب بالحرية والعيش الكريم في ظل دولة تصون سيادته واستقلاله الوطني، وتؤمن له، ولأجياله القادمة، شروط بناء المستقبل الحضاري الذي يصبو إليه.
حقائق العدوان
مجموع هذه العوامل والأسباب أوصلت الأعداء إلى قناعة كاملة بحقيقتين هامتين:
أولاهما، أن اليمن بات خارج نطاق التحكم،وأنه يتأهب، بعد عقود من الطاعة والانقياد، لأن يقف، أخيراً، على قدميه وأن يقود مصيره بنفسه.
والثانية، أن زمن الاعتماد المطلق على العملاء والموالين قد ولى إلى غير رجعة، ومن الضروري، بالتالي، البحث عن وسيلة أخرى لضمان بقاء هذا البلد حبيساً في القمقم، هزيلاً ممزقاً وتحت السيطرة.
لذلك يصبح ما يمارسه العدوان من تدمير همجي وقتل جبان، والذي تراه أعين القاصي والداني، ليس مجرد فعل يائس وحاقد فقط، بل ويمكن، أيضاً، النظر إليه باعتباره، في الأساس ، وسيلة جديدة لتحقيق نفس الغاية القديمة، والتي تتمثل أساساً في تخليد اليمن ضمن دائرة التبعية والتخلف.
حيث تصبح الوسيلة هذه المرة تفكيكه وإضعاف مقوماته واختلاق بؤر مزمنة لنزيفه وتناحر مكوناته.
ومن ذلك، يتضح بجلاء أن مشروعاً للتقسيم والتفتيت، أيا كان شكله ولونه، أصبح، بالفعل ، يشكل ، العمود الفقري للمخطط المرسوم لليمن. ولكن المشكلة كانت تكمن فقط في كيفية تمريره فبعد أن باءت بالفشل كل المحاولات الناعمة لتمرير ما يمكن تسميته بـ” أقلمة البلاد والعباد” بدءاً بمشاهد الفصل الأخير من مسرحية مؤتمر الحوار الوطني الشامل! الهزلية ، وإدراجه الكوميدي ضمن، بل وعلى رأس، ما سمي بـ” مخرجاته” مروراً بحملات الترويج والتسويق الإعلامية وعقد الندوات التي تعدد محاسن التقسيم والأقاليم، وترديد الحديث عن ذلك بلا توقف وكأنه أمر مفروغ منه، وانتهاء بتضمينه، خلسة، في نصوص ما قيل أنها مسودة الدستور الجديد للـ” يمن الاتحادي الجديد”!.
بعد أخفاف كل تلك المحاولات، وبعد أن تهاوى وفر وتوارى أغلب عملاؤهم ، كان لابد من التكشير عن الأنياب والانتقال إلى المحاولة الأخيرة المكشوفة وذلك بشن عدوان سافر وحصار خانق من جهة، وافتعال نزاعات وحروب دموية هنا وهناك، من جهة أخرى، تتولى وسائل الإعلام المأجورة المبالغة فيها وتزويرها وتصويرها كحروب أهلية. المهم أن يبدو معها المخرج الآمن والحل الدائم هو التقسيم والأقلمة والدولة الاتحادية وعندها يراهنون على أن الجميع سيقبل بأي شكل من أشكال الأقلمة مكرهين ورغم أنوفهم. وهو قبول أقرب إلى القبول بالـ” حمى بديلاً عن الموت”. الغريب، أنه بالرغم من كل ذلك، وخلافاً لما هو متوقع، فإن المتابع لخطاب العدو وإعلامه، سيلاحظ انعدام ذكر موضوع التقسيم تقريباً. وإن جاء ذكره فبصورة عابرة وباقتضاب شديد.
فرض التقسيم
لذلك ، نميل إلى الاعتقاد بأن الإصرار الإعلامي المناطق على تحقيق شروط ” عودة الشرعية” والقرار 2216، وإعلان ذلك كهدف وحيد، مع العلم بصعوبة تنفيذه، قد يكون أحد أهدافه الخافية هو منح المعتدين المبرر الشكلى والغطاء السياسي الخارجي والداخلي لإطالة أمد العدوان والحصار مما يحقق لهم المزيد من القتل والتدمير والإبادة. ويتيح لهم، من جهة ثانية، المزيد من وهم بكل ذلك، ينوون، أو بالأحرى يأملون في، فرض أمر واقع جديد على الأرض. واقع يسوده التنافر والأحقاد بين مكونات الشعب، بعد أن ظنوا أنهم قد نجحوا بالفعل ليس فقط في شحن نفوس أبنائه بأحقاد وعداوات مذهبية طائفية ومناطقية، وإنما أيضاً في فصلهم عن بعضهم البعض بأنهار من الدماء لا يمكن عبورها ولا تجفيفها أو طي صفحتها.
وهذا الواقع إن تحقق ، لا سمح الله، فإنه سينشط، حتماً آليات الفصل بدلاً عن الوصل، والتباعد بدلاً عن التقارب، وسيؤسس في الخيال الجماعي لبناء أسوار وجدران بينية عازلة. وفي النهاية، وهذا هو الأهم، سيهئ النفوس والعقول ويمهد لها تقبل أي مشروع لتقسيم وأقلمة التراب الوطني، دون أدنى تفكير في العواقب.
رهان التمزق
الخلاصة، أن هؤلاء الأقزام المتطاولون المستكبرون يحاولون إقناع أنفسهم أنه حتى في حالة الفشل في تحقيق أي من أهدافهم المعلنة، ستكون، مع ذلك قد تحققت لهم، بالقتل والتدمير والفتن، أهم غاياتهم الدفينة الخبيثة والحاقدة والمتمثلة في إبقاء اليمن تحت سيطرتهم مقسماً ضعيفاً فقيراً متخلفاً.
ولا ننسى أنهم في سبيل ذلك، لن يتورعوا، كما يشهد الحال، عن فعل أي شيء حتى لو كلف الأمر تسخير كل ما لديهم من قوى الشر، وكل ما يمكنهم حشده وشراؤه من شياطين ومصاصي دماء، لإشعال المزيد من الفتن والتنافر والاحتراب بين أفراده ومكوناته ومناطقه، وإشاعة الدمار والخراب في سائر أرجائه، تمهيداً لتفجيره من الداخل وشرذمته وتقطيع أوصاله إلى أقاليم وولايات مصطنعة متنافرة واهنة سهلة الانقياد والاختراق والخضوع.
مصالح أمريكا والغرب .. طبيعتها وأدواتها ووسائل تحقيقها
ذكرنا فيما سبق، دوافع وأهداف حكام السعودية من العدوان كيف يقومون برشوة حتى الدول والمنظمات وشراء مواقفها أو صمتها فضلاً عن وسائل الإعلام بمختلف أشكالها كما أشرنا إلى التغطية الأمريكية – الغربية – الدولية والتي لولاها لما تمكنت السعودية من ارتكاب فعلتها المشينة.
بالرغم من صحة ذلك إلا انه لا يعكس كامل الصورة وكافة أبعادها فمثلاً القول بحصول الغرب على صفقات ومنافع مقابل التأييد المطلق للعدوان هذا القول بالرغم من صحته قد يعطي انطباعاً بأن مصالح الغرب تنحصر في ذلك فقط وكأن وظيفة دول المركز في النظام الرأسمالي العالمي وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا هي خدمة “مصالح” حكام السعودية بينما الحقيقة هي أن السعودية شأنها في ذلك شأن بقية الدول التابعة هي من عليها خدمة تلك الدول العظمى بل أن ذلك هو الدور المرسوم لها إن لم يكن مبرر وجودها أصلاً !!.
الغرب إذا لديه أولاً وقبل كل شيء مصالح خاصة وأصلية في اليمن وفي المنطقة وفي بقية إنحاء العالم والسعودية وتوابعها وأشباهها من الكيانات ليست بالتالي سوى أدوات تسخر لتحقيقها فما هي طبيعة وملامح هذه المصالح يا ترى؟.
في يقيننا أن الدوافع والمصالح الجوهرية للغرب تتمركز أولاً في الحيلولة دون خروج اليمن والمنطقة العربية ” ومبدئياً كل مناطق ما يسمى بالعالم الثالث” من دائرة التعبئة والتخلف والضعف التي رسمتها قوى الهيمنة في مركز النظام الرأسمالي – الإمبريالي العالمي وهذا ما أطلق عليه ” مصالح تاريخية بنيوية إستراتيجية ” أي أنها نابعة من جوهر التناقصات البنوية المحركة لبنية النظام الرأسمالي الإمبريالي باعتباره نظاماً اقتصادياً اجتماعياً قائماً في أساسه على الاستغلال والسيطرة.
وقد تعرضنا لهذه المسألة بشيء من التفصيل والتحليل في الجزء الثالث وبينا كيف تشكل هذه المراكز مع انتصار الثورات البرجوازية الكبرى على الأنظمة الاقطاعية التي سادت في أوروبا حتى حوالي القرن الثامن عشر والتاسع عشر حيث شاهدنا عبور تلك المجتمعات التكوينية الاقتصادية والاجتماعية الاقطاعية إلى تكوينات النظام الرأسمالي ومن ثم دخولها عهد الثورات الصناعية وما ترافق مع كل ذلك من اكتمال أسس بناء ونشوء الدولة – الشعب (الأمة) للمرة الأولى وفق المفاهيم العصرية الحديثة.
هيمنة الأقوى
وذكرنا كيف عمدت تلك القوى منذ ذلك الأمد إلى إحباط كل محاولات الأطراف في بناء أية مقومات للانتقال إلى آفاق نهضة صناعية عصرية مستقلة تنفيذية لمخططاتها وكيف لجأت في ذلك إلى كل الوسائل بما في ذلك التآمر وحتى القوة المجردة الصريحة وهذا بالتحديد هو الطريق الذي سلكته هذه القوى لمواجهة وإفشال إرادة وخطط وطموحات محمد علي بداية القرن التاسع عشر .
لقد أدرك القائد الفذ أن تحقيق مشروع التاريخي في العبور إلى عصر الصناعة والحداثة والنهضة الشاملة يستوجب أولاً الاستقلال النسبي عن الآستانة العثمانية وثانياً إيجاد الكيان السياسي الذي يمتلك القدرة على تحويل المشروع إلى واقع حي ولم تكن مصادفة أن يتجة تفكيره آنذاك إلى إقامة ذلك الكيان عن طريق توحيد كافة الولايات المتواجدة في المنطقة ” الناطقة العربية” فالمنطقة تمتد بلا عوائق على رقعة جغرافية ذات أهمية جيوسياسية فائقة كما تتمتع بموارد طبيعية متنوعة ومتكاملة هذا فضلاً عن الروابط اللغوية والثقافية والتاريخية التي تجمع بين ساكنيها .
من هنا أمكننا القول أن محمد علي وهو غير العربي كان بحق أول من أدرك أهمية الوحدة العربية وسعى بالفعل إلى إتمامها كشرط لا غنى عنه لتحقيق انتقال مجتمعي اقتصادي ثقافي عميق على طريق النهضة العلمية الصناعية الشاملة والتحول الحاسم إلى دولة عصرية حديثة لها مكانتها بين الأمم.
لم تطل قوى المراكز الأوروبي الانتظار فسرعان ما تكالبت على محمد علي وعلى مشروعه الوليد وتواصلت معها حتى تركيا العثمانية وروسيا القيصرية واللتان رأتا في ذلك المشروع ممكنات نشوء دولة صناعية حديثة قوية وجديدة تخل بموازين القوى بالتآمر والحصار والهجوم عليه وأجبرته في النهاية على النكوص والتراجع وهكذا عززت دول المركز الأوروبي ممثلة آنذاك ببريطانيا وفرنسا مواقعها وهيمنتها في العالم متكئة في المقام الأول على تفوقها الصناعي العسكري.
ولم تكتف هذه القوى المركزية بذلك الأسلوب بل سعت وبلا كلل إلى تشكيل وإعادة تشكيل الواقع المجتمعي السياسي لمناطق تلك الاطراف بما يخدم مصالحها وأهدافها وفي مقدمتها الحليولة دون سير أي منها في طريق تنموي مستقل عن إرادته ومارست من اجل ذلك أبشع السياسات الهمجية والعنصرية كما سلكت في إخضاعها للشعوب شتى السبل بدءاً بالاستعمار والاحتلال والنهب المباشر مروراً بفرض الانتداب والوصايا وانتهاء برسم خرائط وحدود جغرافية مختلفة لتجزئة مناطق بأسرها وتقسيمها فيما بينها كما كان الحال مع الاتفاق السري بين فرنسا وبريطانيا ” سايكس- بيكو” لاقتسام تركة السلطنة العثمانية في المشرق العربي .
ليس هذا فقط بل قامت من جهة أخرى باختلاق كيانات سياسية افتراضية مصطنعة في قلب تلك المناطق ووضعت على رأسها فئات تكوينات عملية تابعة لها تتولى تحقيق مصالحها وإذا لزم الأمر القيام بكل الأعمال القذرة والجرائم المشينة الكفيلة بذلك نيابة عنها .
وليس بعيدا عن ذلك هو دور النظام السعودي الريعي النفطي الأجوف والذي لا يدرك في حقيقة الأمر أنه مجرد أداة هشة طيعة في يد من اختلقوه وأوهموه بأنه ” دولة عظمى” ووفروا له الحماية والغطاء السياسي والحقوقي بينما هم في سبيل مصلحتهم لا يبالون حتى بدفعه إلى الهاوية أو استبداله بوجوه جديدة أكثر قبولاً أو دماء جديدة اقدر على خدمتهم.
ركائز إستراتيجية
المهم هنا أن علينا التركيز على جانبين أساسيين عند الحديث عن المصلحة المباشرة وغير المباشرة التي تحكم إستراتيجية الولايات المتحدة والغرب عموماً في المنطقة العربية وتسخر كيانات ذليلة كالسعودية لتحقيقها الجانب الأول هو المنافع المادية المباشرة أما الثاني والذي لا يقل أهمية فيتجسد في ضمان ” أمن إسرائيل” بكل الوسائل وعلى الدوام.
ولا داعي للتأكيد على أن الجانبين يلتقيان في النهاية ويسيران في نفس الخط مع ما سبق ذكره من “المصالح الحيوية والتاريخية العليا” لدول المراكز فلا يخفى ان ضمن أهداف زرع إسرائيل في هذه المنطقة هو ان تشكل حاجزا وسط المنطقة العربية يحول دون تقاربها وتوحدها بل ويسعى الى المزيد من تنافرها وتناحرها وتمزيقها وتفتيتها؟
والمنافع المادية واضحة وجلية ولكنها غير محصورة كما هو شائع في صفقات الأسلحة أو في مصادر الطاقة بل تتعدى ذلك لتشمل السيطرة على كل مقومات اقتصاد أو بالأحرى “لا اقتصاد” ذلك الكيان ويبدأ ذلك بالقطاع الريعي الأوحد للكيان والمتمثل في قطاع النفط فالسيطرة كاملة في جميع المراحل من الاستكشاف إلى الإنتاج إلى النقل إلى التسويق سواء من حيث التكنولوجيا أو تصنيع أدوات ووسائل العمل والإنتاج أو الخبرات الهندسية أو مراكز البحث والتطوير التقنية والمهنية.
إلى جانب ذلك نجد أن ذلك الكيان وما يشابهه من كيانات ” هي اقرب إلى المحميات” لا يعدو كونه امتداداً لأسواق سلع الدولة الصناعية والعمالة الأجنبية دون أن يكون له أي نصيب في عمليات ومراحل التصنيع والإنتاج ” بما فيها الزراعة والبناء والتشييد والخدمات بأنواعها والعمالة ليس فقط النوعية بل وحتى البسيطة” في الداخل أو في الخارج وهو الأمر الذي يعني بقاء قواه المجتمعية المفترض أنها قادرة على العمل خارج العملية الإنتاجية تماماً كما يتجسد هذا الهدر, من ناحية أخرى في تسلل وتسرب مجمل القيمة المضافة إلى الخارج بما فيها حتى الريع وبالتالي إعادة إنتاج نفس جوهر الواقع المجتمعي التابع والمتخلف والمستلب.
وأهمية إيراد هذه الحقائق تكمن في أنها تفضح نمط ارتباط المركز الرأسمالي العالمي باقتصاديات الريع عموماً والنفطي منها على وجه الخصوص فهناك تعمد في إبراز العديد من المظاهر المادية المبهرة الخداعة والتي يروج لها وكأنها شواهد على نهضة وحداثة تنموية أشبه بالمعجزات بينما الحقيقة أنها لا تعدو كونها قشرة رقيقة ترتع فيها مصالح النظام الرأسمالي العالمي من الألف إلى الياء وتخفي تحتها جوهراً مراً لمجتمع أوقف نموه الذاتي قسراً، وأقصي عن كل إمكانية لنشاط إنساني منتج مكتفيا باستهلاك واجترار ما يقدمه له المركز من منتجات جاهزة ناجزة.
ويكفي على سبيل المثال أن نسأل ونتساءل من يخطط وينفذ ويشيد المباني والمنشآت الصناعية وغيرها؟ من يقوم بأعمال الاستكشاف والتنقيب عن النفط من يستخرجه ويقوم بنقله وتخزينه وتسويقه وبيعه وتكريره ومن يقوم بحفر آبار المياه أو تحليلها ومن يولد وينقل ويوزع الطاقة الكهربائية؟ إلخ…
ليس هذا فقط بل انك لا تجد سعودياً واحداً يقود سيارة أجرة مثلاً أو يعمل في ورشة لإصلاح السيارات أو للنجارة أو في مخبز أو فندق أو مطعم أو في أية وحدة زراعية صناعية منتجة أو خدمية.
هذا يعني وعلى عكس ما يعتقد جمهور العامة من السذج والمخدوعين أن هناك تحت هذه القشرة السطحية اللامعة التابعة لمركز النظام العالمي خواء وهشاشة اقتصادية محلية مفجعة واعتمادية مطلقة على الغير في كل مجالات ومناحي وشؤون الحياة.
وأد النهضة
ولان هذه الحالة السعودية هي حالة فريدة وتستحق التأمل والاهتمام لأكثر من سبب فقد تناولنا أبعادها التاريخية والراهنة والمستقبلية بمقاربة جديدة ومنظورة مختلف غير مسبوق يزاوج بين مختلف الزوايا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية وذلك ضمن الدراسة التي خصصناها لشراء الأفكار والعوامل والأسباب التي استندنا إليها وراء قولنا أن اليمن, وخلافا لما يشاع او توحي به المظاهر , يملك من المقومات ما يؤهله , في المدى المنظور وبتوفر مجموعة من الشروط, أن يحقق نهضة وطنية تحررية مستقلة , بآفاق عربية وحدوية , وأن يحتل , أيضاً , مكانة طليعية لدى شعوب الأرض المظلومة قاطبة في كفاحها من أجل تحقيق التحرر والتقدم والسلام .
وقد اتبعنا في الدراسة مقاربات سوسيو تاريخية ومنهجيات تحديدية , على حد علمنا غير مسبوقة , كما سلطنا فيها ضوءاً حديداً على مواضيع غير مطرقة مثل أنماط التنمية, والحدود الفعلية للاستقلالية والتعبية , وأشكال الارتباط , وحقيقة الاعتمادية المتبادلة Mutual Dependence وغيرها من المواضيع ذات الصلة .
وهي الدراسة التي نأمل نشرها قريباً بالعربية والانجليزية والفرنسية تحت عنوان “الاستثناء اليمني – “l Exception Yemenite – The Yemeni Exception قاربنا فيها مسار التطورات والتحولات وكذلك الانحرافات والتشوهات التي تميز بها اليمن , عبر تاريخه الوسيط والمعاصر , وذلك من منظور اقتصادي – مجتمعي – تاريخي , ووفق منهج تحليلي استشرافي , هو على حد علمنا , غير مألوف أو مسبوق . وقد حاولنا بواسطة هذا النهج تحديد الملامح الغالبة للتشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية – السياسية لليمن ” أو بالأحرى بعض سمات التشكيلات التاريخية المتجاورة والمتداخلة في عمق التركيبة المجتمعية السائدة ” وكشف عناصر الاستمرار والجمود الكامنة فيها بالإضافة إلى قوانينها وآلياتها الحاكمة لديناميات الحركة والتغيير , أو تلك الكابحة للنمو والتطور.
– وقد قمنا بذلك عن طريق رصد أهم الظواهر المجتمعية الراهنة ومحاولة تتبع نشأتها ومسارها من منظور سوسيو تاريخي يبرز التبدلات والتشوهات التي لحقت بها ، وبصورة أشمل ’ بأسس بناها وهياكلها المجتمعية عموماً . بما فيها ’ على سبيل المثال ” بناه الأساسية والتغيرات والتشوهات التي لحقت بها , التبدلات في منظومة القيم ومعايير السلوك والأخلاق , مظاهر السكون الديناميكية الخفية للحركة , منطق تشكل وانحلال مراكز القوى / عوامل وآليات التجانس والتنافر بين العناصر المكونة للشعب ’ الإنتماءات والولاءات الجمعية الجهوية والقبلية ونقاط العبور الحتمية لتأسيس واقع التحول إلى المواطنة والولاء الوطني , ترييف المدينة كمظهر صريح للتخلف ’ الجدلية بين مركزية السلطة والسلطة المركزية ” أو مركزية الدولة والدولة المركزية ” , شرعنة التسلط والهيمنة على قاعدة الغلبة و الغنيمة , حركية توازن القوة في المجتمع , ملامح القوى ذات المصلحة في التغيير والتقدم مقابل القوى الكابحة والمعيقة للتطور , تكون الشعب وتشكل الدولة , الاقتصاد بين الريع وإعادة إنتاج التخلف , إنتاج الخيرات المادية أساس الثروة وقواها المنتجة أساس التغيير , خرافة النمو والتنمية والديموقراطية في ظل هيمنة قوانين تقسيم العمل العالمي الرأسمالية الإمبريالية “الرأسمالية المالية”.. إلخ.
– ولكننا , هنا وفيما يلي , سنكتفي فقط بالإشارة إلى بعض الخطوط العامة لما احتوته الدراسة بخصوص ” الحالة السعودية” والتي يمكن إيجازها في :
1 – أن الإقصاء أو بالأحرى الاخصاء الاقتصادي الذي فرض على المجتمع بأسره عبر نمط الارتباط مع المركز , إنما جاء كنتيجة مباشرة للصفقة التي عقدتها الأسرة الحاكمة مع (الشيطانين البريطاني وخلفه الأمريكي) والتي كان فحواها الحقيقي هو ” حماية العرش مقابل الخضوع الكامل لإرادته ومصالحه . وكانت النصيحة تتعلل بحجة أساسية هي :
ما حاجتكم للشغل والعمل والتعب وسيكون لديكم من المال ما يمكنكم من شراء كل شيء من الأسواق العالمية
2 – أن هذا الإقصاء استفحل سياسياً بوجود هياكل سلطوية أسرية خارج الزمن , مغرقة في التخلف والرجعية والعمالة , ولا تجيد سوى القمع ونهب المال وإنفاقه.
3 – أن الفضاء الديني والثقافي والتعليمي – التربوي والقضائي , تهيمن عليه الأفكار والعقائد الوهابية المحنطة الاستلابية المحرضة على تقديس النقل والتقليد والخرافة , واحتقار العقل وتحريم الاجتهاد والتجديد , وقمع وتكفير وإلغاء الآخر المختلف .
4 – أن المجتمع , من جهة أخرى , قد غرته وتغلغلت فيه أسوأ وأقبح المظاهر والقيم والسلوكيات الغربية الاستهلاكية السطحية الوافدة.
5 – أن كل هذه العوامل المتنافرة التقت في النهاية لتصنع خليطاً ساماُ مدمراً استقر في عمق المجتمع وأصاب ذهنية ووعي وهوية أفراده , وخاصة الشباب منهم , بالاضطراب والتشوه والاغتراب نتيجة تمزقهم بين أقطاب ثلاثة: الإقصاء الاقتصادي – السياسي ” عن كل ما يتعلق بالدورة الإنتاجية , وعن كل ما بتعلق باتخاذ القرار ” من ناحية , وتفشي سطوة قيم وأنماط سلوك الحياة الغربية بالإباحية , من ناحية ثانية , وطغيان الإرهاب الفكري الوهابي المتزمت ومعاييره السلوكية المنغلقة التحريمية والتكفيرية , من ناحية ثالثة .
6 – وأخيراً لم يكن من المستغرب أن تفضي هذه التركيبات الهجينة المشوهة إلى تهيئة التربة لنمو مختلف أنواع وأشكال الضياع والانحراف والإدمان , في أوساط الشباب خاصة , وأخيراً , وتحت أوهام الخلاص الأبدي , دفع هؤلاء للانخراط بين صفوف الجماعات السلفية الجهادية التكفيرية الإرهابية ونشرها في المنطقة بأسرها , تعيث فيها دماراً وفتناً وفساداً, خدمة لمصلحة ” الأسياد” الكبار . ومن الجدير بالذكر أن الأمر لا يقتصر على السعودية وحدها , وإن كانت تمثل نموذج الحد الاقصى, ولكنه يسري على أغلب دول المنطقة , إن لم يكن كلها, وإن بأشكال مختلفة , ودرجات متفاوتة.
إستراتيجية المصالح يمنياً
هذا بخصوص الحالة السعودية وبالطبع ستتعرض الدراسة المذكورة أيضاً , وبشيء من التفصيل , لما اسميناه بمصالح الغرب وأمريكا الـ ” تاريخية البنيوية الإستراتيجية ” في اليمن . أما ما وصفناه بـ(المصالح المباشرة) وما يتعلق منها باسرائيل وفي ما يخص اليمن تحديدا فإن هذه المصالح تمتد , على سبيل المثال , لتشمل موقعه الجيوإستراتيجي متمثلاً في جواره للقرن الإفريقي ولمناطق أنتاج النفط والغاز في الخليج, وفي سواحله وجزره “وخاصة سقطرى” المطلة والواقعة على بحر العرب وخليج عدن والبحر الأحمر بما فيه مضيق باب المندب . ومن هنا اكتسبت بعض المشاريع أهمية خاصة مثل تطوير ميناء عدن ومد خط أنبوب لنقل النفط من الخليج إلى سواحل حضرموت على البحر العربي تجنباً لمضيق هرمز .. إلخ
وباب المندب , بالمناسبة , يجسد مثلاً حياً لما ذكرناه سابقاً عن ترابط المصالح وتلاقيها أياً كانت طبيعتها فالاهتمام بالمضيق لا ينحصر فقط في كونه ممراً حيوياً للتجارة الدولية , ولكنه يخفي , كما نعتقد , أبعاداً أخرى تتعلق بضمان ” أمن الكيان الغاصب” وذلك في إطار استراتيجية صهيوأميريكية تهدف إلى إحكام الخناق على مصر بعد محاصرتها مائياً عن طريق سد النهضة في اثيوبيا وتواطؤ السودان معها وإثارة قلاقل حدودية في حلايب مثلاً وكل ذلك في جزء من خطة , تشارك فيها دول خليجية وغير خليجية , وفي مقدمتها السعودية , غايتها إبقاء مصر ضعيفة غارقة في أزمات مصيرية مما يضمن الحيلولة دون نهوضها وعودتها لتلعب , من جديد , دورها التاريخي في مقارعة الكيان الصهيوني وحلفائه من دول الغرب الامبريالي, وفي قيادتها للمشروع العروبي التحرري والتقدمي .
محطات تأسيسية
وفيما يلي فقرات , سنتناول فيها أهم محطات الخلفية التاريخية لهذا الموضع . وقد فضلنا سرد بعض وقائع تلك الخلفية بقدر لا بأس به من الإسهاب والتفضيل لقناعتنا بأنها سجلت الولادة الحقيقية لحركة التحرر الوطني العربية وعنفوان انطلاقتها وطموحاتها . كما جسدت , أيضا , تقهقرها وصعودها المد الرجعي و” الإسلام السياسي ” الظلامي على أطلالها والذي لا تزال شعوبنا العربية تحيا في براثنه حتى يومنا هذا. يضاف إلى ذلك ما نلاحظه. بأسى وأسف , من جهل غالبية الغرب الساحقة بوقائع وأحداث ماضيهم القريب وأن أجيالهم المتعاقبة أصيبت بفقدان ذاكرة جماعي.
في البداية , وقبل الحديث على الجانب الثاني من المصالح , والمتمثل في ضمان ” أمن إسرائيل: , علينا الإشارة إلى أن هذا الأمر في الاستراتيجية الغربية , كان , ولا يزال , يعني العمل على محورين رئيسيين . الأول هو إعطاء الكيان الصهيوني كامل الدعم والتأييد وكافة أسباب القوة والتفوق في كل المجالات الاقتصادية والعملية التقانية والعسكرية والسياسية .. إلخ. أما المحور الثاني فهو السعي الدائم لإضعاف جيرانه من الدول العربية ولإبقائهم في حالة مزمنة من الدونية.
وقد أشرنا فيما سبق إلى الخيوط الأولى لهذا المسار التآمري والتي تجلت في إجهاض تجربة محمد علي النهضوية الوحدوية . وما نضيفه هنا هو أن هذا المسار التآمري تواصل وتصاعد على مدى القرن السابق حيث أخذت محطاته الأبرز في الظهور تباعاً وذلك بدءاً بتقسيم “تركة الرجل العثماني المريض” في المشرق العربي بين قطبيه آنذاك بريطانيا وفرنسا في اتفاقهما السري المعروف بـ”سايكس بيكو”, مروراً في 1917 بوعد بلفور المشؤوم القاضي بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين , وانتهاء في 1948 بتحقيق الوعد واختلاق الكيان الصهيوني نفسه وزرعه وإقحامه ظلماً وعدواناً في قلب المنطقة العربية . ومنذ ذلك التاريخ ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية وانتقال راية زعامة ” دول المركز الإمبريالي ” إلى أمريكا،, بدأت حقبة ” الحرب الباردة” , وأخذت الإستراتيجية الإمبريالية في منطقتنا العربية ترتدي وجوهاً وتتبع أساليب أكثر صراحة في العداء السافر لحركات التحرر والاستقلال الوطني وللتيارات القومية العروبية التي ترفع شعارات وحدة الأقطار العربية وتحقيق التنمية الشاملة والنهضة الصناعية والعدالة الاجتماعية واللحاق بالعصر. كما جرى صراحة إعلان :إسرائيل” حليفاً استراتيجياً أبدياً لدول الغرب المركزية في تلك المعارك المصيرية ضد نضالات الشعوب , سواءً في المنطقة العربية أو في العالم بأسره.
عداء تاريخي
كانت بداية الصدام والمواجهة , في منطقتنا , مع مصر الثورة وقيادتها الوطنية الجديدة التي أدركت أن نقطة العبور الإجبارية لتحقيق أي تحرر واستقلال فعليين إنما تكمن في السير على طريق التحولات التنموية الاقتصادية – الاجتماعية الكبرى , وفي قلبها إحداث ثورة زراعية – صناعية – ثقافية تشمل كل مناحي حياة المجتمع . وأدركت القيادة أن السير في هذا المشوار الطويل يشترط إنشاء بنية وأساس لإقامة قاعدة صناعية متينة تنطلق منها مسيرة التقدم والنهضة.
وهكذا استقر الرأي على ضرورة البدء بتنفيذ مشروع السد العالي العملاق في أسوان , ليس فقط باعتباره حجر أساس في مجمل البنية التحتية – المدنية – الصناعية ” (كهربة البلاد بأسرها ) , ولكن أيضاً لتحقيقه أعلى مستوى من التحكم في مياه النيل.ولم يكن تحالف الشر العالمي غافلاً عن الأبعاد الحقيقية لمثل هذا المشروع, لذلك أوعن للبنك الدولى, بدءا, بالانتقاد والاعتراض والمماطلة , وفي النهاية بالرفض المطلق لتمويله.
لم تستسلم القيادة الوطنية لمصر الثورة، فبادرت بالرد عبر إعلان القرار الجريء القاضي بتأميم شركة قناة السويس، وهو ما أطار صواب قيادة دول تحالف المركز الاستعمارية القديمة، ممثلة في بريطانيا وفرنسا، فسارعتا عام 1956م مع ربيبتهما إسرائيل بشن ما عرف لاحقا بالعدوان الثلاثي الغاشم على مصر، في محاولة يائسة لكسر إرادة وآمال الشعب المصري ولإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
وقد أدى العدوان مع صمود مصر شعباً وقيادة وثورة إلى نتائج عكسية لم تكن في الحسبان, أولها ذلك الغضب العارم الذي تفجر واجتاح كافة الشعوب العربية دون استثناء، وهو الغضب الذي سرعان ما تحول إلى المزيد من بلورة معالم التيار القومي العربي الوحدوي التحرري اليساري المعادي لقوى الاستعمار والهيمنة الامبريالية العالمية.
بعد الانتصار وانكسار العدوان تعمق الوعي بترابط أهداف الأمة في الحرية والوحدة والنهضة الكبرى، وتجسد ذلك في قيام أول وحدة عربية هي الوحدة المصرية السورية عام 1958م تحت اسم وعلم (الجمهورية العربية المتحدة) واندلاع ثورة يوليو 58 وانسحاب العراق على إثرها من حلف بغداد الأمريكي، كما تلى ذلك في عام 1960م وبمساعدة سخية من الاتحاد السوفييتي الشروع في بناء السد العملاق سد أسوان العالي.
وقد ووجهت هذه الخطوات التحررية القومي الجريئة بمخططات وتحركات صهيو – أمريكية غربية عدائية سواءً مباشرة أو غير مباشرة، عبر أنظمة الحكم الرجعية العميلة في المنطقة، ونذكر في هذا الصدد على سبيل المثال لا الحصر: إنزال قوات المارينز في لبنان (54) واشعال الفتن الطائفية وترويج مشاريع التقسيم والترحيل، التآمر على ثورة تموز في العراق 1958م والوحدة المصرية السورية (الانفصال 1961م)، التكالب لاجهاض ثورتي سبتمبر واكتوبر اليمنيتين (62/63) وإغراق الجيش المصري والشعب اليمني في أتون الحرب الأهلية (62/63) ..الخ.
وبما أننا لسنا بصدد سرد تفاصيل الأحداث والوقائع، فإننا سنكتفي هنا بالإشارة إلى أهم التغيرات في الاستراتيجية التي اتبعها الأعداء وأعوانهم لتحقيق أغراضهم الدنيئة في الحيلولة دون انعتاق الدول العربية من دائرة التخلف والتبعية خدمة لمصالحهم وحفاظا على أمن وتفوق اسرائيل.
في البداية كان اعتمادهم الأساس يرتكز على الجوانب العسكرية والتقانية والتدخل المباشرة، فكانت مواقفهم من الكيان الغاصب تتلخص في احتضانه ودعمه وتيسير وصوله إلى أعلى المراتب وبأسرع الوسائل، بينما كانت إزاء الطرف العربي المقابل ترتكز على الاستعداء السافر والتشويه والحجب والحرمان والإعاقة لكل محاولة ولو يسيرة لتطوير مصادر قوته وتقدمه.
من هنا كانت الجيوش واحصائيات المقارنة العسكرية والتكنولوجية الكمية والنوعية بين الطرفين العربي والاسرائيلي هي المعيار الغالب إن لم يكن الأغلب في جوهر استراتيجية العدو التقليدية آنذاك.
عمالة القوى الرجعية
من جهة أخرى وفي إطار تنفيذ تلك الاستراتيجيات عمدت الدوائر المخططة في التحالف الصهيو – غربي إلى توزيع وتحديد الأدوار التي يتعين أداؤها من قبل كل فاعل من الفاعلين فيها، وكان نصيب الأعوان من قوى الرجعية العربية، وفي مقدمتهم المملكة السعودية هو العمل بكل ما هو متاح، على تخريب وإحباط، وإن بصورة خفية غالباً، كل بادرة لمشروع وطني عروبي تحرري وحدوي مستقل يرمي إلى قيام نهضة صناعية تنقل المجتمعات العربية إلى العصر الحديث وتمكنها من أداء دور إيجابي في بناء وتقدم مجمل الحضارة الإنسانية.
يمكن القول بأن تلك الاستراتيجية التقليدية كانت هي السائدة دون تغيير يذكر حتى شهر يونيو من عام 1967م وهو تاريخ ما عرف بـ(النكسة) حيث تحدث العالم عن قيام الجيش الإسرائيلي في حرب لم تتجاوز الأيام الستة، بالحاق هزيمة ساحقة بالجيوش العربية، وتردد بعدها أن الصراع بين العرب وإسرائيل قد حسم نهائياً، وإلى الأبد، لصالح الأخيرة، وأن حقبة جديدة من تاريخ المنطقة قد بدأت بالفعل، حقبة ستشهد الإذعان الكامل للأمر الواقع والاعتراف الصريح بالكيان الصهيوني الغاصب كدولة كاملة السيادة وجار طبيعي، ينعم هو وجيرانه (العقلاء) بالعيش في بيئة وردية من (الوئام والسلام).
ولكن وخلافاً لما هو شائع بين النخب العربية والعالمية فإننا لا نؤرخ للنكسة بـ5 يونيو من عام 1967م وإنما بـ28 سبتمبر 1970م وهو تاريخ وفاة (أو بالأحرى اغتيال) قائد الثورة جمال عبدالناصر وذلك ببساطة لأن الهزيمة التي مُني بها الجيش العربي المصري في 1967م على هولها لم تنجح في تدمير الإرادة الصلبة لقوى الشعب الوطنية الحرة الشريفة.
على العكس تماماً شاهدناها تنفض الغبار وتنهض رغم الجراح أكثر وعياً وإدراكاً بحجم التحديات في السلطة ومؤسسات الدولة، مراكز النفوذ المتسلقة المتراخية وبعد صدور بيان مارس 1968م وتواصل حملات تقييم التجربة والنقد والنقد الذاتي وتقديم رموز مراكز النفوذ تلك إلى المساءلة والمحاكمة بدأت سلسلة الإصلاحات الجذرية وتقويم الانحرافات والقضاء على النتوءات والتشوهات تؤتي ثمارها.
وتجلى ذلك بوجه خاص في الميدان العسكري حيث عاشت القوات المسلحة ثورة تغيير حقيقية طالت كل المستويات وكافة الجوانب دون أدنى استثناء كما تم في وقت قياسي إنجاز العملية الخارقة الهادفة ليس فقط لتعويض ما فقده الجيش في الحرب من عتاد وسلاح وإنما أيضاً لرفع المستوى النوعي لتسليحه وتجهيزه، وغني عن القول أن كل ذلك لم يكن ليتحقق لولا وقوف الاتحاد السوفييتي التاريخي المبدئي واللامشروط إلى جانب الشعب العربي المصري قيادة وشعباً في نضاله البطولي من أجل انتصار قضاياه العادلة.
وهكذا اكتملت الشروط وبدأت حرب الاستنزاف على طول خطوط التماس مع العدو وتسارع ايقاع استكمال الإعداد والتجهيز للمعركة الكبرى، معركة القوة لاستعادة ما أخذ بالقوة، ومعركة العبور لاستعادة الكرامة وتحرير أرض الوطن كاملة من دنس المحتل.
مسلسل التردي والانحطاط
وهنا وقع ما لم يكن في الحسبان، فقد شاءت الأقدار أن تصعد روح القائد عبدالناصر الطاهرة إلى بارئها في 28 سبتمبر من عام 1970م وتسلم مقاليد الحكم نائبه محمد أنور السادات، ليبدأ معه ويتواصل حتى اليوم مسلسل التردي والانحطاط في مسيرة التحرر الوطني العربية، وبدلاً من ان تشرق الشمس عاد ليخيم على البلاد والمنطقة بأسرها ظلام حالك أشبه بظلام القرون الوسطى.
وقد كانت البداية في تبني القيادة الجديدة سياسة تبرز أخطاء العهد السابق وتصفه بالمعادي للديمقراطية وللحرية ولحقوق الإنسان، وتوالت الخطوات الرجعية المعادية للخط السياسي الوطني الذي أسسه الراحل عبدالناصر حيث تم إخراج المعتقلين من ناشطي الحركات الإسلامية المتشددة من السجون وإدخال رموز الحركات الوطنية القومية اليسارية مكانهم، تحت شعار القضاء على مراكز القوى، كما جرى إصدار دستور جديد يرضي إلى حد كبير الاتجاه الإسلامي السياسي المتشدد وأعلنت سياسة الانفتاح الاقتصادي سياسة رسمية بديلة، تلى ذلك الاستغناء أو بالأحرى طرد ما يقرب من 17000 خبير سوفيتي.
وفي تلك الظروف وفي عام 1973م تحديداً اندلعت حرب أكتوبر المجيدة، وهي الحرب التي قامت القوى الوطنية بقيادة عبدالناصر بالتخطيط لها وتنفيذ خطوات الاستعداد لخوضها على مدى سنوات ما بعد نكسة 67 وحتى حرب الاستنزاف، ورأينا أثناء حرب 73م كيف تحايل وتآمر الخونة على الانتصار الوشيك المحتوم في حرب التحرير واستعادة الكرامة، وحولوه إلى واقع اشد وطأة من الهزيمة ذاتها.
توالت الأحداث العسكرية والسياسية بعد ذلك حتى إعلان وقف اطلاق النار وإعلان السادات أن لدى أمريكا 99 % من أوراق اللعبة وأنها بذلك صاحبة القرار الأول والأخير مما يحتم التفاهم معها وليس استعداءها والوقوف ضدها، ثم أعلن على إثر ذلك نيته عدم حضور مؤتمر السلام المزمع عقده في جنيف بمشاركة كل من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة بناءً على قرار مجلس الأمن، وأعلن بدلاً عن ذلك قراره المنفرد بزيادة إسرائيل، وبالفعل نفذ السادات قراره في 19 /11/ 1977م ليصبح بذلك أول رئيس عربي يزور الكيان الغاصب ويلقي خطابا في الكنيست.
بعد أقل من سنة على الزيارة جرى في 17 /9 /1978م التوقيع في منتجع كامب ديفيد الأمريكي على وثيقة (إطار الاتفاق على معاهدة سلام بين اسرائيل ومصر) والتي مهدت الطريق لإتمام اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة والتوقيع النهائي عليها في 29 /3/ 1979م.