المفاجئ والمثير للدهشة على الأقل بالنسبة لشركات النفط العالمية التي مازالت وحتى قبل عامين فقط تتوقع التعامل مع سعر يقل عن 50 دولاراً للبرميل ومضت ترسم جميع خططها على هذا الأساس. أما الأكثر إثارة للدهشة فهو أن الاقتصاد العالمي استمر يشق طريقه بنمو قوي على الرغم من هذا الارتفاع علماً بأن تداعيات آثار ارتفاع الأسعار لا تقتصر فقط على أسعار الطاقة وإنما أيضاً أسعار البلاستيك وسائر أنواع المنتجات الأخرى التي نستخدمها في حياتنا اليومية. وحسبما جاء في التحليل الذي أوردته صحيفة الاندبندنت اللندنية مؤخراً فإن فصول حكاية النفط مازالت مستمرة على الأقل إلى أن ينتهي به المطاف الى نضوب بحيرة السائل الأسود وتتوارى من المسرح العالمي. وبدأت أسعار النفط في الصعود بشكل لافت في نهاية عام ،2004 ولكن ارتفاعها في هذا العام على وجه الخصوص جلب معه ثلاثة منعطفات إضافية أصبحت مثار اهتمام العالم، أولها الخوف المتنامي من بلوغ الحدود النهائية للإنتاج النفطي العالمي والتي أصبحت فيما يبدو لا تتعلق فقط بإمكانية إعادة الإنتاج للعمل بسعته القصوى وإنما بالشكوك بشأن المقدرة على زيادة مستوى الإنتاج الحالي حتى على المدى المتوسط. وبينما يختص الأثر الثاني بالطفرة في الطلب من الاقتصادات الناشئة وبخاصة من الصين فإن المسألة الثالثة أصبحت تتمحور في الدلائل المتنامية على التباطؤ في الاقتصاد الأميركي بالإضافة الى العلاقة التي تربط ارتفاع أسعار النفط بهذا التباطؤ. ويمضي التقرير محللاً كلا من هذه المشاكل الثلاث على حدة ومشيراً إلى أن الوفرة الحقيقية للنفط كمعدن تشهد تغيراً وزيادة ملحوظة في السنوات الأخيرة حيث لم يتمكن العالم من التوصل الى اكتشافات جديدة هائلة على الرغم من أنه بات يشهد عدداً من الاكتشافات الصغيرة الحجم والاهتمام المتزايد بالموارد النفطية غير التقليدية بما فيها النفط المستخرج من الرمال في كندا، إلا أن ما تغير في حقيقة الأمر ذلك القلق والوعي المتزايد بالضغوط التي يواجهها العالم والمتمثل في التحذيرات المنظمة من الافتقاد الى الإمدادات وبروز نظرية ''ذروة النفط'' والتي طالما ظل كبار المنتجين يعتبرونها خلطا في الرأي وخروجا عن الإجماع قبل أربعة أعوام من الآن، أما الآن فقد أصبحت هذه المسألة تخضع للمزيد من الجدل الجدي وبدا معظم الجيولوجيين يشعرون بالتشاؤم الى درجة أن جمعية دراسات ذروة النفط والغاز تنبأت من أن هذه الذروة سوف يتم بلوغها خلال فترة السنوات الخمس القادمة. ومما لا شك فيه فإن مناقشة هذه المفاهيم أصبحت ضرورية لأسباب عديدة، فمن شأنه أن يحفز العالم على اصطياد البدائل الجديدة بما فيها المحاصيل والحبوب النفطية ولو بعواقب غير متوقعة أو مرجوة، أما الأهم من ذلك فإن هذا التغير سوف يؤدي الى تغير في موازين القوى العالمية بحيث تكتسب روسيا ومنطقة الشرق الأوسط أهمية متزايدة ويقل النفوذ الأميركي والأوروبي بمرور السنين، وأصبح هذا التحول في ميزان القوى ماثلاً للعيان أصلاً في حجم الأموال النقدية المتوفرة للاستثمارات والمتمثلة في صناديق الثروة السيادية. وإذا ما قدر للإمدادات النفطية أن تمضي الى انكماش في المستقبل فإن هذه الأموال سوف تشهد نمواً متعاظماً بسبب الاستمرار في ارتفاع أسعار النفط وبشكل يغير كثيراً من المفاهيم الاستثمارية التقليدية حيث سترغب الدول التي لديها الأموال في إخضاع وتوظيف هذه الأموال في استمرار لمصلحتها الوطنية. أما المسألة الثانية، أي الطفرة في الطلب فهي الطرف الآخر من المعادلة، فالمعروض من النفط لن يصبح محدوداً فقط في المستقبل، بل ان الطلب سوف يستمر متفوقاً عليه في المستقبل أيضاً، ويمكن القول إن الدولة الأكبر استهلاكاً حالياً في العالم، أي الولايات المتحدة الأميركية، سوف تعمد الى إجراء تغييرات في اقتصادها بحيث تتمخض عن استخدام أقل لهذه المادة، وبإمكانها فعل ذلك عبر إنتاج أساطيل من السيارات الأكثر ترشيداً للوقود على سبيل المثال، إلا أن الجهود المتزايدة في الدول المتقدمة نحو ترشيد استخدام الطاقة سوف لن يصبح بمقدورها موازنة وتعويض الطلب المتنامي من دول مثل الصين. ويبدو أن الصعود الحالي في أسعار النفط ظل مرتبطاً أكثر من غيره بارتفاع الطلب من الصين، إذ إن هذه الدولة استهلكت ثلاثة أرباع الإمدادات الإضافية من النفط العالمي في العام الماضي، ولاحظ الفريق الاقتصادي في مصرف ''آي إن جي'' أن الصين في طريقها لأن تستهلك جميع الإنتاج الإضافي في هذا العام، وفي حال إن قدر للصين أن تمضي في استهلاك كل النفط الإضافي المتوفر أو ما يزيد على ذلك فإن بقية بلدان العالم سوف يتعين عليها الاكتفاء بكميات أقل مما اعتادت عليه، وهو الأمر الذي يفسر أن الطفرة الحالية في الأسعار مختلفة تماماً من جميع الصدمات النفطية السابقة التي شهدها العالم إذ تسبب فيها الطلب المرتفع عوضاً عن محدودية الإمدادات. وهي مسألة تقودنا بشكل طبيعي الى المشكلة الثالثة، فالاقتصاد الأميركي أصبح يمضي في تباطؤ برغم أنه ما زال من الصعوبة بمكان التفريق بين الأسباب العديدة التي أدت الى ذلك. وأحد هذه الأسباب يكمن في الانخفاض الحاد في أسعار المنازل الأميركية التي باتت تشهده معظم الولايات، وهناك أسباب أخرى تكمن في الانهيار المالي كنتيجة لائتمان الرهونات التي أصبحت أقل قيمة بكثير مما كانت تعتقد البنوك. ولكن الغريب أن الاستهلاك في الولايات المتحدة ما زال قوياً في ظل ما حدث لأسعار المنازل وبات السؤال يتمحور في مدى التأثير الذي ستخلفه أسعار الوقود المرتفعة وعما إذا كانت سوف تجبر المواطنين هناك على خفض مشترياتهم للسلع الأخرى، ففي الوقت الذي استمرت فيه أسعار النفط في الارتفاع في الولايات المتحدة وارتفعت فيه كذلك جميع أسعار السلع الرأسمالية المستوردة بشكل حاد إلا أن أسعار سلع المستهلك المستوردة ما زالت ثابتة بشكل ملحوظ، ولعل السبب في ذلك يعود الى الاختلاف في التوقيت، إذ إن أسعار النفط ارتفعت بسرعة أكبر من الوقت الذي يستغرقه موردو سلع المستهلك لرفع أسعارهم.. أو ربما يعود هذا الأمر ببساطة الى السلع الصينية المستوردة - التي يأتي معظمها للأسواق الأميركية - وهي لا تزال رخيصة الثمن بحيث ما زالت تحقق الأرباح لمصدريها بهذه الأسعار المتدنية. ويبقى أن ارتفاع أسعار النفط لا يزال مجرد عامل واحد يلقي بالضغوط على الاقتصاد العالمي، فالدول التي تشهد نمواً قوياً سوف يمكنها مواكبة هذه الأسعار، أما الدول التي ترزح أصلاً تحت الضغوط مثل الولايات المتحدة الأميركية فستجد من الصعب عليها أن تفعل ذلك، وكذلك الحال بالنسبة للدول التي تقبع في المنطقة الوسطى مثل المملكة المتحدة، وعلى كل فإن أسعار الطاقة المرتفعة سوف تشكل عاملاً إضافياً ضد الاقتصاد العالمي ويتمخض أن تباطؤ النمو في العام المقبل، فالأموال التي يتم إنفاقها في محطات البترول سوف لن تصبح متوفرة من أجل الإنفاق على السلع الأخرى في نهاية المطاف.